الجمعة، 13 نوفمبر 2015

القابعون في الظلام


لا بد من أن معظمكم شاهد فيلم العــرّاب THE GODFATHER الذي فتن قلوب الملايين حول العالم حيث أدهشهم ذلك العالم الخفي القابع وراء كواليس الحياة اليومية للمجتمع الأمريكي. لقد تمكّن الإخراج البارع لهذا الفيلم من تهييج أشجان الكثير من المشاهدين بحيث استطاع تحريك الجانب العاطفي لديهم بدلاً من إثارة الرعب في نفوسهم من مدى الخطر الذي يخفيه الواقع الحقيقي الذي عبّر عنه، وبالإضافة إلى مجموعة أخرى من الرسائل الخفية التي حاول إيصالها للمشاهد بطريقة ذكية.


حتى في عالم الجريمة المنظمة، تبيّن أن هناك أعراف وتقاليد وجب احترامها والالتزام بها. جميع العائلات تخضع لقانون عام ينظّم المنافسة، وحتى الحروب الشرسة، التي تنشب فيما بينها.. وكل شيء قابل للتفاوض، حتى المسائل المستعصية والأكثر تعقيداً. حتى في ذلك العالم الدموي الذي لا يعرف الرحمة، نجد الدبلوماسية الراقية ذات المستوى الرفيع، والتخطيط العبقري، والتنفيذ المحترف، والحكمة العالية... والكثير الكثير من القسوة والبطش. وعندما تجتمع هذه العوامل، لا بدّ من أن تتجسّد القوة النافذة والسيطرة المطلقة.


وقد استنتجنا حقيقة مهمة جداً، هي أن السيطرة ليست مجرّد نزوة قدرية عابرة، أي صعود عفوي لأحد الأشخاص إلى القمة حيث ينتظره في المقابل هبوط محتوم يقرره القدر أيضاً. بل يبدو أن السيطرة مهنة كما باقي المِهن الأخرى، لها أسرارها ومجموعة من العوامل التي تساهم في استمراريتها وازدهارها. وطالما بقيت تلك العوامل، وخاصة المحافظة على سرّية المهنة، فسوف تستمر السيطرة، وربما إلى الأبد.

وبما أن السيطرة تُعتبر مهنة كما باقي المِهن الأخرى، فهي إذاً قابلة للتوريث من الأب للإبن من أجل المحافظة على استمراريتها كما باقي المِهن أيضاً. وربما نجح الفيلم السينمائي الذي نحن بصدده في إظهار هذا الجانب، حيث صوّر الطريقة التي يكشف فيها العرّاب العجوز عن بعض الحقائق والأسرار التي أدهشت ابنه الوريث الذي واجه صعوبة في استيعابها بالبداية، لأنها تناقض كافة المفاهيم الاجتماعية والأخلاقية التي نشأ عليها... الحياة التي يفرضها هذا المنصب الرفيع ليست سهلة كما كان يعتقد: ".. يمكن لخنجر الغدر أن يأتي من أقرب المقرّبين! وفي أي وقت! الحذر ثم الحذر من كل من تكنّ له عاطفة أو احترام... فهذه تُعتبر أدوات الموت في عالم الجريمة المنظّمة. وجب أن تكون ابتسامتك مزيّفة... وعاطفتك المتأججة ظاهرياً تكون مجرّد مكيدة مخادعة يقع في شباكها الغافلون...."


هناك الكثير من القصص والروايات التي تتحدث عن عائلات مختلفة تنتمي لهذا العالم الإجرامي الذي لا يرحم. لكن مهما بلغ هول الحقيقة المرعبة التي تكشفها هذه الروايات، إلا أنها تبقى حقيقة مجزّئة لا تعبّر عن الصورة الشاملة للواقع. فهذه العائلات المافياوية (المافيا)، مهما بلغ جبروتها، إلا أنه يبقى منحصراً في مقاطعة صغيرة أو مدينة أو ولاية... أي كل عائلة من هذه العائلات العديدة تسيطر على مساحة معيّنة من جغرافيا البلد وليس كل البلد. وجميع هذه العائلات تخضع بدورها لسلطة واحدة تقبع في مكان ما، بحيث تنظّم الأمور وتديرها بشكل أوسع. وهذه السلطة العليا الخفية تخضع لسلطة أعلى، وهكذا إلى أن تنتهي السلطة بيد مجموعة صغيرة جداً تقبع على قمة الهرم التراتبي الذي يشمل كافة شبكات الجريمة المنظمة حول العالم. 

إذاً، فالصورة التي تتكوّن لدى القابعين في القمة هي أرحب وأشمل من تلك التي يراها عرّاب عائلة مافياوية تسيطر على إحدى المقاطعات الصغيرة في إحدى الدول. لكن السؤال هو: هل تسود الأجواء الإجرامية ذاتها في ذلك المستوى العالي جداً من السيطرة؟ كيف يفكرون هناك؟ ما هي الإجراءات التي يتخذونها للمحافظة على استمرارية السيطرة على العالم؟ ما هي المعلومات التي بحوزتهم؟ كيف ينظرون إلى العالم؟ كيف ينظرون للإنسان.. والحياة بشكل عام؟

هذا ما سوف نتعرّف عليه في هذا الكتاب الصغير الذي يصوّر لنا عملية توريث تجري في إحدى العائلات النخبة القابعة في قمة الهرم العالمي. قد تكون أي من العائلات المالية المعروفة مثل: "بارينغ" Baring، "لازارد" Lazard، "أرلانغر" Erlanger، "واربورغ" Warburg، "شرودر" Schroder، "سليغمان" Seligman، "سبيارز" Speyers، "ميرابود" Mirabaud، "ماليت" Mallet، "فولد" Fould، و"مورغان" Morgan... وعلى رأسهم طبعاً عائلات "روثتشايلد" Rothschild، و"روكفيللر" Rockefeller .. وعلى رأس هؤلاء.. لا أحد يعلم، حتى العائلات المقرّبة من النخبة تجهل هويتهم.

يصرّ مؤلف الكتاب بأنه إذا حصل تطابق بين ما ورد فيه وبين واقعة حصلت فعلاً في ذلك العالم الأرستقراطي الرفيع، فهذا مجرّد صدفة وهو لا يقصد أي من العائلات المذكورة في الأعلى. لكنه بنفس الوقت مصرّ على أن ما ورد في هذا الكتاب من معلومات وحقائق ثابتة، يمكن التحقق من مصداقيتها عبر الاطلاع على مجموعة كبيرة من المراجع المذكورة في نهاية الكتاب.


إلى ولــدي

"..العالم محكوم من قبل شخصيات لا يمكن للفرد تخيّلها إلا إذا كان يعمل خلف الستار.."
بنيامين ديزريلي. رئيس وزراء بريطاني سابق

في هذا المخطوط الصغير سوف تجد الصيغة المكتوبة لاستهلالية دخولك إلى أسرار إمبراطوريتي الحقيقية والتعرّف عليها عن كثب. اقرأه ثانية وثالثة، واستكشف المعرفة السرّية التي أصبحت تألف جانباً منها سابقاً. تريث لبرهة وتأمّل، وحضّر نفسك لاختبار ذات الصدمة والرهبة التي شعرت بها قبل عشرين عاماً مضى، حيث كنت في سن الثلاثين وتعرفت على المدى الأسطوري لقوة والدك من خلال مجموعة من المستشارين المؤتمنين لدي، والذين أصبح معظمهم في عالم الأموات اليوم. تذكّر الدهشة، لدرجة عدم التصديق، التي تملكتك عند رؤيتك كل تلك السلاسل (جنازير) الخفية، لكنها متينة، من الخداع والإرباك والإكراه التي نستخدمها نحن الأباطرة الرأسماليون لاستعباد هذا العالم الفوضوي الدنيء.

تذكّر ما يتطلبه الأمر من إرادة واستراتيجية حتى نبقى محافظين على موقعنا. ثم تذكّر ضرورة الاستمرار في تفقّد واستقصاء أتباعك وفريق عملك جيداً وبحذر شديد. وجب أن يكون وريثك مساوياً وكفؤاً للمهمة الموكلة إليه كما نجحت أنت في تنفيذها. انتقيه بحذر كبير. بينما أنا أقبع هنا منتظراً نهايتي، أصبح بإمكاني الاستمتاع بفكرة بقاء إمبراطوريتنا إلى الأبد، حيث لم أتجرأ بالتمتع بهذه الفكرة خلال تولي القيادة. يمكن للحسابات العقلانية لمسائل تتعلّق بالقوة والنفوذ أن تتعطّل بفعل رعشة السلطة ومتعة الشعور بالمجد والعظمة. هذه الحسابات الحكيمة والعقلانية أصبحت بين يديك الآن.

".. أعرف، أنوي، تجرّأ، وابقى صامتاً.."
أليستر كرولي Aleister Crowley



 استهلاليتي بمناسبة انتسابك

".. الإنسان هو حبل ممدود بين الحيوان والإنسان الخارق، هذا الحبل معلّق فوق هاوية.." ـ ".. سوف أعلّمك عن الإنسان الخارق. فالإنسان العادي هو شيء وجب تجاوزه.."
فريدريك يتشه Friedrich Nietzsche

".. تبجيل الذات، الإلمام الذاتي، التحكم بالذات.. هذه العوامل الثلاثة وحدها تقود إلى القوة النافذة.."
ألفريد لورد تينيسون Lord Tennyson

".. لا شيء، ولا حتى الله، هو أعظم بالنسبة للشخص من الشخص ذاته.."
والت ويتمان Walt Whitman

".. افعل ما تستطيع فعله.. وما حققته أو اقترفته سوف يمثّل جوهر القانون.."
أليستر كرولي Aleister Crowley

بنيّ، لقد حان الوقت لأن يتجلى أمامك ما كنت تنتظره بإصرار لبعض السنين. من بين كل أخوانك، وأخواتك، وأولاد أعمامك، وبالإضافة إلى أولاد شركائي المقرّبين، اخترتك أنت لأن تكون وريثاً لإمبراطوريتي. جميع الذخائر المالية، والمؤسسات، والمنشآت، والحسابات التي من خلالها يتم التحكم بإمبراطوريتي سوف تنتقل إليك بعد استقالتي. جميع تحالفاتي واتفاقياتي وتفاهماتي وحتى الخصومات القائمة بيني وبين مجموعة قليلة من النظراء المنافسين حول العالم سوف تنتقل إليك. في الأعوام العشرين القادمة، سوف نتعاون سوياً أنا وأنت، ونتقارب أكثر وأكثر حتى نعمل في النهاية وكأننا شخص واحد. 

لمدة عشر سنوات سابقة كنت تتنقّل في رحاب إمبراطوريتي من خلال سلسلة تراتبية من المهمات الإدارية وأصبحت الآن ملماً بالعمليات الظاهرية لأعمالي المصرفية، ومؤسساتي، ومنظماتي الحكومية وكذلك منظمات الدراسات الاستراتيجية التابعة لي. حتى الآن، بقينا أنا والمستشارين المقرّبين نتجنّب تساؤلاتك المصرّة حول الطريقة التي تعمل بها سياساتي المصرفية والمؤسساتية والمنظماتية التي بدت لك وكأنها متناقضة وفوضوية ومستقلّة عن بعضها، وتساءلت كيف يمكن لعدم التنظيم وعدم التناغم هذا أن يعمل لصالح عائلتنا والمحافظة على استمرارية موقعها بين العائلات المالية النافذة. في الحقيقة، إن طرحك هذه الأسئلة، وتصرّفك المتمرّد، وخاصة رفضك لصورتي الاجتماعية المزيّفة التي بنيتها بحذر طوال سنوات حتى ارتفعت إلى مستوى الألوهية، هو السبب الذي جعلني أكنّ لك الاحترام الكبير.

معظم منافسيك من الرجال المنتمين للعائلة ابتهجوا بمناصب قيادية مزيّفة اعتلوها في منظماتي العديدة فاكتفوا عند هذه الحدود وتخلوا عن مباراة المنافسة في التسلّق نحو المنصب الأرفع، والذي أصبح من نصيبك الآن. إن هذا النوع من الرجال، أصحاب النظرة القصيرة، يمثلون عناصر أساسية لنجاحي. إنهم ينحنون دون وعي للضغوط الخفية التي أعرّضهم لها. يمكنني قيادتهم إلى أي اتجاه أختاره، ذلك من خلال إرشادات قصيرة المدى تعتمد على كبرياءهم أكثر من ذكائهم، دون إطلاعهم على دوافعي الحقيقية ورائها، فتمثّل هذه الإرشادات أسراراً قصيرة المدى تقبع بشكل مؤقّت في عقولهم الحسودة وغير المنضبطة.

من ناحية ثانية، أهم العوامل التي جعلتك مختاراً كوريث مناسب لي يتمثّل بطبيعتك النفسية (السيكولوجية) التي تم تبليغي عنها بأمانة عبر السنوات الماضية من قبل زملائي الذين معظمهم تلقى تدريب متقدم في مجال السيكولوجيا. وجب على رجل في موقعي أن يتمتع بسيطرة كاملة على عواطفه. وجب على جميع التصرفات والقرارات التي قد تؤثّر على مصلحة العائلة ونفوذها أن تستند على حسابات عقلانية وباردة، هذا إذا كانت الغاية بقاء العائلة وازدهارها على حساب أتباعها ومنافسيها معاً. إن القوة والسلطة مستحيلة بالنسبة لهؤلاء الذين تكون ممارساتهم محكومة بالعاطفة، الحب، الحسد، شهوة السلطة، الثأر، التعصّب، الكره، حب العدالة، شرب الخمر، تناول المخدرات، وأخيراً الرغبة الجنسية. وبنفس الوقت، المحافظة على القوة تكون مستحيلة بالنسبة لهؤلاء الذين يكبتون كافة رغباتهم وشهواتهم في وعيهم الباطن لفترة من الوقت، حتى تأتي لحظة غضب مجنونة فتسمح بتدفّق كل هذه المكبوتات إلى الخارج فيتم التعبير عنها بطريقة لا يمكن السيطرة عليها. إن كل هذا يؤدي حتماً إلى دمارهم الأكيد. رغم تسلّح الفرد بقوة عقلانية ذات طبيعة حسابية هادئة، إلا أن السلوك الاندفاعي يقبع عند جذور هذه الطبيعة الهادئة، وبالتالي فهو حاضراً لأن ينفجر في أي لحظة غير متوقعة أو محسوبة.

رغم أنه عليك العمل على هذا الجانب النفسي باهتمام في المستقبل، لكنك نجحت في الاختبار على أية حال، حيث أظهرت عبر السنوات الماضية قدرة كبيرة على التحكم بطبيعتك العاطفية والاندفاعية وهذا ضروري جداً لتحقيق القوة الحقيقية والمحافظة على النفوذ والتفوّق على المستوى العالمي. وجب عليك اعتبار طبيعتك العاطفية بأنها مجرّد آلية بقاء بدائية كانت مناسبة في إحدى العصور للعيش في الغابة، أو ربما هي مناسبة للإنسان العادي، لكنها غير مجدية إطلاقاً بالنسبة للتحديات التي نواجهها نحن الرأسماليون الكبار. إن ملاحقة ما تفعله، فقط لأنك تقوم بفعله، يُعتبر خاصية نفسية ابتدائية للأشخاص العاديين. فهذه الخاصية الشاذة تُعتبر كارثية بالنسبة لنا. إن التركيبة العاطفية تجعل حياة البشرية مجدية وتستحق العيش، لكنها ليست مجدية إطلاقاً لممارسي فنون السيطرة وطقوس التآمر والتحكّم. على أي حال، استمرّ في إشباع رغباتك الحسّية والعاطفية إلى أن ترتوي. طالما حافظت الإمبراطورية على ازدهارها، سوف يبقى لديك المصادر الكافية لتنغمس في ملذاتك الحسية والعاطفية بشكل منتظم ومحسوب، فهذه وسيلة مجدية لمنع تراكم أي مكبوتات غير عقلانية في جوهرك وبالتالي تساهم في إبطال وتعطيل كافة اندفاعاتك الغريزية غير المحسوبة. سوف لن تكون في موقع أولئك الكادحين في الطبقات الوسطى، والذين بسبب عدم توفّر مصادر إرواء الرغبات الحسّية والعاطفية، يكبتون طبيعتهم العاطفية عندما يعتلون منصب قيادي معيّن في حياتهم. لكن، وبكل تأكيد، ينتهي بهم الأمر وهم يستمدون متعتهم من انتصارات آنية وكذلك متعة القسوة التي يظهرونها خلال كفاحهم القصير الأمد. وبالتالي، لم يعد النفوذ والسلطة يمثلان غايتهم النهائية، بل يهزمون أنفسهم المُحبطة أصلاً من خلال سلوكهم المتهوّر أثناء توقهم لتحقيق متعة الهيمنة المباشرة فقط.

لقد جمعتك في هذه الخلوة مع المستشارين الأكثر ثقة لدي، بهدف تدشين مرحلة جديدة من مسيرتك الإدارية للإمبراطورية. فتدريبك السابق على التعامل مع النظرة الرسمية للعالم السياسي/الاقتصادي قد اكتمل. وهذا اليوم سوف يمثّل انطلاقة جديدة حيث تتدرّب على التكنولوجيا الحقيقية للنفوذ والسلطة التي تختبئ وراء الواجهة الرسمية لإمبراطوريتنا. إنها التعاليم الخفية للطقوس المُتبعة للسيطرة على هذا العالم البائس. وكما سوف يشرح لك معلموك لاحقاً، فإن التعاليم الخفية، أو المعرفة السرّية، تمثّل أساس قوتنا ونفوذنا بين المجتمعات البشرية. لهذا السبب اخترت كلمة "التعاليم الخفية" occult لأنها تمثّل جوهر ما أقصده. أنا واثق بأنك أصبحت مدركاً لحقيقة أن الإنتاجية وحدها لا تضمن وجود القوة وبالتالي لا تضمن الرضا بالحياة. تذكر أنه حتى العبيد منتجون. ليس هناك أي من منظماتي التي خدمت أنت في معظمها بكفاءة عالية تهتمّ بتطوير التقنيات التي ترضي حاجات البشر ورغباتهم. وبدلاً من ذلك، فهي مُكرّسة لتجعل كافة الجهود المنتجة، حتى ولو بالإكراه، تتمحور حول سلطتي مباشرةً أو تعمل على توفير الظروف والأجواء التي تبقي على استمرارية هذه السيطرة الخفية في المستقبل. أنا لا أتسامح أبداً، بل أدمّر فوراً أي مجهود إنتاجي غير قابل لأن يعلق في شبكتي.

بعد فترة وجيزة سوف أترك المجال للبروفيسور A لكي يشرح المنظومة الرأسمالية من منظور بيولوجي. وبعد شرحه المُختصر، سيتبعه ستة من الزملاء بشروحات مُختصرة أيضاً تغطي مواضيع أخرى، وجميع هؤلاء الزملاء تعرفهم جيداً. وسوف نمضي عطلة الأسبوع هذه بمصارحات أخرى تمثّل إجابات شافية لكافة تساؤلاتك.




البروفيسور A
حول دور الخداع في الطبيعة
ON THE ROLE OF FRAUD IN NATURE

".. ألسنا مجرّد حيوانات مفترسة بالغريزة؟ إذا توقّف البشر عن افتراس بعضهم البعض، هل يستطيعون الاستمرار في البقاء؟.."
أنتون.س. ليفي Anton S. LaVey

".. من أجل السيطرة على الطبيعة، وجب إطاعتها.."
فرانسيس بيكون Francis Bacon

كافة الكائنات الحيّة يعتمد نجاحها في البقاء على عامل الخداع أو القوة الجسدية أو في بعض الأحيان على تبادل المصالح (التعايش symbiosis). هذه الحقيقة واضحة وجلية، لكن يتم تجاهلها وتجاوزها بشكل عام بسبب الشرائع الأخلاقية والأدبية التي نفرضها نحن، النخبة المسيطرة، على رعايانا، وطالما فرضها أجدادنا المسيطرون على البشرية عبر التاريخ من خلال الأديان والتشريعات المدنية التي تطوّرت في القرون الأخيرة السابقة. دعني أعطي بعض الأمثلة لتوضيح الفكرة، لأن الثقافة الرسمية الأدبية/الأخلاقية التي نشأت عليها قد عطّلت قدرتك على الرؤية الموضوعية للواقع الحقيقي للحياة من حولك. يُعتبر التمويه المخادع Camouflage عاملاً جوهرياً لدى كافة الكائنات، إن كانت مُفترسة أو طريدة. حتى أن الأزهار تطلق روائح وتظهر ألواناً تعمل على تفعيل الغريزة الجنسية لدى بعض الحشرات، وكل ذلك من أجل استخدامها لنقل حبات الطلع وبالتالي إكمال عملية الإخصاب بين أجناسها. الكلاب تنبح بشراسة وتتظاهر بالهجوم على الأعداء، مع أنها في الحقيقة مرعوبة منهم. أما النبتة الآكلة للحشرات Venus Fly Trap، فعملها هو إغراء الحشرات وإغواءها إلى أن تقع في الشرك لتواجه الموت. أما الإنسان، فيدعي المثالية والتفاني تجاه الآخرين وحتى تجاه نفسه، مع أنه في الحقيقة يعمل بأنانية خبيثة لتحقيق المصلحة الفردية أولاً. إذا لازلت تشكّ بحقيقة أن الخداع هو عامل طبيعي موجود في كل مكان في الطبيعة، فوجب عليك إذاً قراءة المقطع الثالث من الفصل الأوّل من كتاب "روبرت أردري" Robert Ardrey الذي بعنوان "الاتفاقية الاجتماعية" The Social Contract، حيث ستجد عدد كبير من الأمثلة الجيدة. (طبعاً، رغم بصيرته الثاقبة التي تجلت في كشفه عن جوانب كثيرة من الطبيعة الحيوانية للإنسان، إلا أن الكاتب "أردري" فشل في استيعاب طريقة تطبيقها واستثمارها بين المجتمعات البشرية العصرية).

إن الجرأة العقلية وقدرة التواصل المميزة لدى الإنسان وفرت استمرارية مذهلة لهذه الطبيعة الحيوانية المتمثلة بالخداع لكنها تطوّرت لتتخذ شكل جديد: خداع الذات. يعتمد النظام التراتبي للحيوانات البدائية على الغش والتحايل والترهيب والاعتداء، وكل عضو في هذه المنظومة التراتبية يدرك جيداً موقعه في هذه المنظومة ويرضى به، لكن بشكل مؤقّت، لأن توقه يكون دائماً للأعلى. هذا التوق الغريزي للهيمنة والإخضاع لازال نشطاً في قلوب البشر. مع أن الخداع (الذي هو الوسيلة) قد تطوّر كثيراً لدى الإنسان. فلذلك نرى أنه ليس فقط التحايل والترهيب يُستخدم عند البشر بهدف تحقيق الهيمنة، بل تطوّرت وسيلة مخادعة أخرى، وهي التفاني (الغيرية altruism) وكذلك المؤسسات الجماعية (أديان، أحزاب.. إلى آخره) تُستخدم كواجهات ظاهرية تخفي وراءها سيطرة مطلقة. بعكس المنظومة الحيوانية البدائية، فالمنظومة التراتبية البشرية لا يمكن أن تستمر إلا إذا كان الأعضاء واهمين بحيث يجهلون الطبيعة المهيمنة للمنظومة. ويصبح الأمر أفضل بكثير إذا كانوا يجهلون بوجود أي منظومة تراتبية أصلاً!

الحُكام المرئيين هم ضعفاء جداً. ومع ذلك، نرى كيف أن هؤلاء الحكام يُعتبرون أحياناً بأنهم ممثلون الله على الأرض، الخير المطلق، القوة المادية في التاريخ، الإرادة العامة للرعايا. مع أنه في الحقيقة، يُصرف الكثير من الاهتمام وتُبذل الجهود الكبيرة لتحريف الثقافة العامة، وحتى العلوم الفكرية، لتعمل على تقليل الحقد والحسد الذي يكنه المحكومون للحكام. يُعتبر تشجيع هذه الأوهام المخادعة بين الجماهير الواسعة من العوامل الرئيسية التي تتبعها الحكومات المرئية. لكن مهما كانت السياسات والإجراءات المُتبعة لتشديد وطأة الحكومات والقيادات المرئية، فهي لا تستطيع حماية نفسها أمام منظمات متطورة جداً تقودها النخبة العالمية في الخفاء (الحكومات السرّية)، وبكل تأكيد، فهي لا تمثّل شيئاً بالنسبة لرجال مثل والدك. كانت الإمبراطورية الرومانية مترفعة عن المساءلة من قبل رعاياها طوال قرون مديدة، لكن مع ذلك، كان الأباطرة الرومان يعيشون في حالة رعب دائم من خطر الانقلاب أو حتى الاغتيال.

من خلال إتباع سياسة الخداع والحزم وفي كافة المستويات، استطاعت الرأسمالية المتمولة، المسيطرة عن طريق المال، أن تصمّم منظومة كاملة متكاملة بحيث لم يشهدها التاريخ من قبل، بهدف ضمان النفوذ المطلق واستمرارية السيطرة حتى النهاية. إن رجال مثل والدك، الأسياد الخفيون للرأسمالية المصرفية، يحكمون الذين يحكمون، والذين ينتجون، والذين يفكرون، كل ذلك من خلال قيود وسلاسل مالية خفية ممثلة بإجراءات وعمليات معيّنة سوف تتعرف عليها لاحقاً وبالتتابع من خلال زملائي. لقد تم تحقيق الهيمنة الكاملة للمجتمع، لكن بطريقة سرّية وغير مُدركة، بينما لازال مُعظم الجماهير الخاضعة للسيطرة، وحتى القيادات والزعامات الدولية، يعتقدون بأنهم مستقلون أو أحرار. لازال الجميع تقريباً يظنّ بأن القرارات المصيرية الكبرى تُتخذ كنتيجة لأحداث عفوية تولّد ضغوطاً معيّنة في مجالات مثل التجارة والأعمال، الحكومة، المستهلكين، الطبقات الاجتماعية، وغيرها من مصالح وشرائح أخرى. وفي الحقيقة، فإن المساحة الممنوحة لنشاط القوى الاجتماعية المختلفة قد تم موازنتها بحذر من قبلنا، بحيث عندما يحصل حركة اجتماعية معيّنة لا بد من أن تكون جهة حركتها من اختيارنا. العائق الوحيد الذي يمكن أن نواجهه، والذي يمكن أن يكون له أثر كبير، هو حصول تدخّل من قبل عائلات رأسمالية نافذة منافسة لنا. هذه المسألة المُحرجة والحرجة بنفس الوقت سوف لن تكون موضوعنا الرئيسي في الوقت الحالي. سوف أسلّم الأمر للبروفيسور Q الذي سيشرح الأسرار المركزية الكامنة وراء القوة المالية الهائلة لوالدك.




البروفيسور Q
عن المعرفة السرّية كمفتاح للقوة
ON OCCULT KNOWLEDGE AS THE KEY TO POWER

".. إن نظرية الإنتاج الإجمالي التي هي موضوع الكتاب التالي، يمكنها على أي حال أن تكون أكثر سهولة إذا تم تكيّفها مع ظروف دولة توتاليتارية بدلاً من كونها نظرية إنتاج وتوزيع لمنتج معيّن تم تقديمه في ظروف المنافسة الحرّة.."
جون منيارد كينز John Maynard Keynes
مقدمة الإصدار الألماني من كتاب "النظرية العامة" 1936
ملاحظة: سوف تتعرفون على حقيقة جون منيارد كينز لاحقاً في الفقرات القادمة

على مدى التاريخ، برزت النخبة الحاكمة بالاستناد على المعارف السرّية (أو السحرية) التي كانت بحوزتها والمحروسة بعناية من قبلها. كانت قوة هذه النخبة الحاكمة، أو المجموعة الكهنوتية إذا صحّ التعبير، تتقلّص مباشرة بعد أن تتحوّل معارفهم السرّية إلى "علوم" تُدرّس للنخب المثقفة. وكانت هذه القوة تتلاشى وتختفي تماماً بعد أن تصبح تلك المعارف السرّية "منطقاً مألوفاً" أو معلومات عامة يألفها الجميع.

قبل الدخول إلى الطقوس الخفية للرأسمالية المصرفية، سوف نلقي نظرة سريعة على تاريخ استخدام أجدادنا المسيطرون للمعرفة السرية في حكم الشعوب. في الحقيقة، هذا الموضوع يتطلّب مساحة كبيرة جداً لكنني سأبسّط الأمر من خلال مثال واحد وهو استخدام علم الفلك الذي كان يمثّل إحدى أقدم المعارف السرية للنخبة الحاكمة عبر التاريخ.

بعد تخلي البشرية عن حياة التنقّل وصيد الطرائد، استقرّت في مستوطنات دائمة لتبدأ الحياة الزراعية. ومن أجل تيسير أمورهم الزراعية، وجب أن يتنبؤا بالمواعيد المناسبة لكافة تفاصيل هذه المهنة الجديدة التي اتبعوها. كانت هذه المعرفة ضرورية من أجل تحديد موعد الفلاحة، وموعد الزراعة وموعد الفيضانات في الوديان الخصبة، وموعد المواسم الممطرة،... وهكذا. ففي غياب الروزنامة الفلكية، كان الفلاحون يستنزفون شهوراً طويلة من العمل المضني وأحياناً كثيرة كانت جهودهم تذهب هباءً. وهذا مثال على الحالات التي يقوم أجدانا باستغلالها بشكل حاسم ومناسب. لقد أصبح لعلماء الفلك بضاعة ثمينة للبيع، وقد استخدموها لاستغلال الرعايا البائسين إلى أقصى الحدود. لقد أقنع الفلكيون (الكهنة)، الحاجبين لهذه المعرفة السرّية عن الجميع، الرعايا البائسين بأنهم الوحيدون الذين يستطيعون التواصل مع الآلهة، وبالتالي، هم الوحيدون الذين يمكنهم ضمان العودة الدورية للمواسم الزراعية الجيدة وتوفير الأجواء المناسبة التي تنتج المحاصيل الفائضة. أما قدرتهم على التنبؤ بمواعيد الكسوف والخسوف للشمس والقمر مثلاً، والتي قدموها على شكل مسرحيات يتظاهرون خلالها بأنهم يطلبون من الآلهة إخفاء الشمس أو القمر، فقد أثبتت تأثيرها في عملية إخضاع الرعايا الجاهلة لسلطتهم المقدّسة التي تباركها الآلهة. أما نجاحهم الحاسم، فكان في تأثيرهم على كافة جوانب حياة الرعايا، حيث أصبحوا يحددون المواعيد المناسبة لكل شيء، ويتم استشارتهم بكل شيء، وبالتالي، أصبح مصير الجميع في أيدي هذه المجموعة الكهنوتية الصغيرة التي لم تكن تملك سوى بضعة جداول سرية تحتوي على مواعيد فلكية متعلقة بعدة جوانب من نشاطات الطبيعة. اليوم مثلاً، لازال عيد الميلاد Christmas يمثّل أقدم تقليد شعبي عرفه التاريخ، هذا التقليد لم يكن يمثّل عيد مولد المسيح، بل وجده الكهنة أصلاً للاحتفال بإحدى المواقع الفلكية التي تتخذها الشمس. كانوا يقيمون الطقوس السحرية، بحجة التخاطب مع الآلهة، طالبين عودة الشمس التي ماتت (في موعد الانقلاب الشمسي الشتوي) في 22 كانون أوّل، وبعد ثلاثة أيام (أي في 25 كانون الأول)، كانت الشمس تعود من جديد (تخلق من جديد)، وبعدها يقيم الرعايا احتفالات صاخبة لهذه المناسبة المباركة وابتهاجاً بنجاح الكهنة في استعادة الشمس. ولازال الناس يحتفلون بهذه المناسبة حتى اليوم، لكن تحت مسميات مختلفة ووفق طقوس دينية مختلفة (مولد المسيح).

أي معرفة شعبية عن الطبيعة الفلكية للفصول والمواسم تظهر في مكان ما خارج دائرة سيطرة الكهنة كانت تتعرّض فوراً للقمع الحاسم والجذري. وقد ظهر التحريم والتكفير منذ تلك الأيام، حيث اعتُبر أي خروج عن سلطة الكهنة خروجاً عن طاعة الآلهة، وبالتالي فإن مجرّد تهمة أحدهم بأنه كافراً مهرطقاً يكفي لأن تجعل حياته مُباحة (ذبحه حلال) ولابد من أن يواجه مصيره البائس على يد أحد الرعايا المتعصبين في أي وقت وأي مكان.

خلال حصول أي خطأ أو فشل في التنبؤ الفلكي من قبل الكهنة، كان اللوم يقع على الخطايا التي يقترفها الرعايا، وبالتالي، وجب أن يتحملوا عقاب الآلهة. كانت هذه الحجة تُستخدم أيضاً لتبرير عمليات القمع المُكثّفة التي قام بها الكهنة لتقوية نفوذهم وسلطانهم. لمدة قرون طويلة، كان الناس الذين لم يكن لديهم أي فكرة عن عدد الأيام التي تفصل بين المواسم والمواعيد الدورية، حتى أنهم كانوا يعجزون عن التعداد أصلاً، يقدمون العطايا والقرابين بكل سرور للكهنة المقدسين، وبالإضافة إلى إهداء أجمل بناتهم، تعبيراً عن شكرهم وامتنانهم لهذه النخبة المباركة.

إن قوة طقوسنا التمويلية/الرأسمالية/المصرفية تستند على معرفة سرّية مشابهة تماماً، خاصة في مجال الاقتصاد. هذه القوة سوف تضعف، وحتى تتلاشى، إذا حصل تقدم حقيقي في علم الاقتصاد، لكن لحسن الحظ، فإن أغلبية الناس ومعظم القيادات الثورية هي جاهلة تماماً في مجال الاقتصاد. ومع ذلك، كنا، نحن الأباطرة الماليين النافذين، ولازلنا، ننجح في تمديد فترة سيطرتنا الاقتصادية، وحتى إعادة إنعاشها من جديد، عبر الإفساد المُمنهج لعلم الاقتصاد عن طريق حقنه بتعاليم مُخادعة ومزيّفة. فمن خلال نفوذنا في المؤسسات التعليمية، والإعلامية، ومجال الطباعة والنشر، تمكنا من دعم ومكافأة الأساتذة والمفكرين المنافقين، لكنهم أوفياء لنا، والذين كانت تعاليمهم المُلفّقة تُفرض قسراً على السياسات الحكومية ومؤسساتها تحت العنوان الوطني الكبير المتمثّل بـ"المصلحة العامة" أو "الحل المناسب للأزمة الحالية"، ثم تأخذ بها المؤسسات الدستورية، ثم تتحوّل إلى إجراءات تطبيقية على الأرض الواقع، وهذا التجديد الدوري في علم الاقتصاد يساهم في زيادة عمر إمبراطورياتنا المالية حتى إشعار آخر.

تُعتبر النظرية الكينزية Keynesianism (نظرية اقتصادية أوجدها جون منيارد كينز) من أكبر البرامج الاقتصادية خداعاً وتضليلاً التي تم تصميمها وتطويرها لصالحنا. إن الاقتصاد المختلط، المركزي جداً، الذي رسخه اللورد "كينز" بحجة تعزيز الازدهار يحمل كل الخواص والميزات المطلوبة لجعل سيطرتنا منيعة جداً ضد الغريمين اللدودين: [1] المنافسة الحرة الحقيقية في الحلبة الاقتصادية، [2] العملية الديمقراطية الحقيقية في الحلبة السياسية. إن المبادئ الاقتصادية الكلاسيكية المتمثلة بـ"السوق الحرّة" free market، و"عدم التدخّل الحكومي في الشؤون الاقتصادية الفردية والجماعية" Laissez-faire، كانت تمثّل محاولاتنا الأولى لإفساد علم الاقتصاد. لقد ساهمت حبكتها المتماسكة في إعماء الاقتصاديين لسنوات طويلة، مع أنها في الحقيقة ليس لها أي صلة بالواقع الحقيقي. لكن في جميع الأحوال، لقد أصبحنا أقوياء جداً اليوم لدرجة أنه لم يعد من الممكن إخفاء مؤسساتنا المهيبة وراء المظهر المخادع المُسمى بـ"المنافسة الحرّة".

ما تفعله النظرية الكينزية Keynesianism هو أنها تُعقلن (تجعله معقولاً) حالة "القدرة المطلقة" التي نظهرها، بينما تحافظ بنفس الوقت على امتيازات الملكية الخاصة والتي تعتمد عليها قوتنا بشكل أساسي. رغم أن الإصلاحات المؤقتة التي سوّق لها كارل ماركس في البيان الشيوعي Communist Manifesto، مثل المصرفية المركزية، ضريبة الدخل، وغيرها من إجراءات ذات طبيعة سلطوية مركزية، قد صًممت أصلاً لأن تكون قابلة للإفساد والتحريف من قبلنا ولصالحنا، إلا أننا لم نعد نسمح بظهور حركات ماركسية نافذة في الدول المتقدمة. لقد أصبحت مؤسسات السيطرة لدينا جاهزة للعمل ولم يعد هناك حاجة لنشر هذه الأيديولوجيا أكثر من الحدود التي توقفت عندها. صحيح أن الشيوعية قد صُممت أصلاً من قبل الرأسمالية العالمية، إلا أنها تمثّل جهاز خطير جداً وبالتالي وجب التعامل معه بحذر شديد، لأن ظهور خطوات حقيقية نحو تحقيق الشيوعية بشكل فعلي وسليم قد يؤدي إلى نهايتنا حتماً. وطبعاً، فالشيوعية المزيّفة هي هدفنا المنشود، حيث تمثّل حجاب أيديولوجي ممتاز لإخفاء الدكتاتوريات الخاضعة لنا تماماً في الدول النامية والمتقدمة على حدٍ سواء.

وبالإضافة، فإن قوة أسياد المال تستند على المعرفة السرّية في مجال السياسة والتاريخ أيضاً. كما أننا نجحنا في إفساد هذه العلوم. صحيح أن الكثير من الناس أصبحوا يألفون أسرارنا من خلال قراءة كتب منشورة مثل كتاب "1984" لمؤلفه المتحرر "جورج أورويل"، لكن القليلون فقط يأخذون هذه المعلومات على محمل الجد، وعادةً ما يستبعدون هذه الأفكار بصفتها نوع من البارانويا. بما أن الجوهر الحقيقي للسياسة مبني على اجتهادات ومصالح فردية، فبالتالي، التاريخ الحقيقي هو عبارة عن صراع لنيل السلطة والنفوذ والثروة. لكننا نبذل كل ما عندنا لتحريف وإخفاء هذه الحقيقة الواضحة جداً، ذلك من خلال تسويق وتكريس النظرية القائلة بأن التاريخ يُصنع من صراعات فكرية محقّة وموضوعية وليست فردية، أي صراع أنظمة سياسية، أيديولوجيات، أديان، طبقات اجتماعية، أعراق.. وهكذا. من خلال الاختراق المنظّم لكافة المنظمات الكبرى، إن كانت فكرية، سياسية، أو أيديولوجية، أو دينية، مستخدمين الدعم المالي والإعلامي الهائل، استطعنا قولبة التوجه الفكري العام، مهما كان توجهه وأيديولوجيته، ليتماشى مع مصالحنا ومتطلباتنا الخاصة.

نحن الذين خلقنا دائرة الصراع السياسي بين اليمين واليسار. وفي الحقيقة، هذا الصراع يعكس طريقة عبقرية لاستقطاب الجماهير وجعلهم يوجهون انتباههم واهتماماتهم إلى مسائل مزيّفة بعيدة كل البعد عن المشكلة الحقيقية في هذا العالم وهي نفوذنا المالي الهائل في كافة جوانب الحياة البشرية، وبهذه الطريقة سنبقى في منأى عن الصراع وبعيدون كل البعد عن الاستهداف المباشر من قبل العقول الثائرة والمتمرّدة.

الفكر اليساري يدعم الحريات المدنية ويعارض الحريات الاقتصادية والتجارية. بينما الفكر اليميني يدعم الحريات الاقتصادية والتجارية ويعارض الحريات المدنية. وطبعاً، لا يمكن لأي من هذه الحريات التي ينادي بها الطرفين أن تتحقق دون الأخرى، وهذا هو هدفنا أصلاً من إنشاء حركتين تناديان بأهداف ناقصة. نتحكم بصراع اليمين/اليسار بحيث يبقى شكلي الحريات اللذان ينادي بهما الطرفان مقموعان بدرجات معيّنة نحددها نحن. أما حريتنا نحن، فلا تستند على الحقوق القانونية والمعنوية التي تُقرّ جهاراً لصالحنا، بل نستمد حرّية تصرفنا من خلال سيطرتنا على البيروقراطية الحكومية وكذلك المحاكم التي تطبّق، وبكل سرور، القوانين المعقّدة التي كانت من تصميمنا أساساً ولازالت الجماهير مخدوعة بعدالتها وأنها وجدت للمصلحة العامة.

الصراعات الفارغة العديدة التي تهدف فقط إلى تحريف انتباه الجماهير عن عملياتنا السرية تجد أرضاً خصبة في الخصومة المحتدمة بين اليمين واليسار. فهناك مسائل كثيرة لا يتفق عليها هذان التياران السياسيان، مثل السياسات العنصرية والعرقية، معاملة المجرمين، تطبيق القوانين، الجوانب الإباحية، السياسات الخارجية، حقوق المرأة، الرقابة... وهذه ليست سوى عينات بسيطة جداً بالمقارنة مع مسائل أخرى معقدة ومتداخلة. رغم أن الرقابة المفروضة "باسم العدل والإنصاف" قد أثبتت جدواها لصالحنا في مجال الإعلان، لكننا لا نصطف مع أي من الطرفين (اليمين/يسار) المتنازعين إعلامياً حول مسألة معيّنة. بل بالعكس، نعمل على تمديد فترة هذا النزاع من خلال دعم الجانبين معاً، لكن ضمن حدود معيّنة بحيث تبقي الأمر قابل للسيطرة.

الحرب، طبعاً وبكل تأكيد، هو أكبر مصدر لإلهاء الجماهير وبالإضافة إلى أنه أهم مصدر حيوي لإنعاش منظومتنا المالية. توفّر لنا الحروب غطاءاً ممتازاً يتمثّل بـ"أزمات وحالات طوارئ" تخفي وراءها برامج وإجراءات تعمل على تعزيز قوتنا ونفوذنا. بما أن الحروب النووية أثبتت عدم جدواها بالنسبة لنا بعد تقييم نتائج الانفجار السابق في اليابان، أبقينا هذه المسألة كمصدر للرعب فقط، وبدأنا بالتركيز أكثر على إطلاق "أزمات اقتصادية"، و"حالات نقص في مصادر الطاقة"، و"حالات هوس في الشؤون البيئية"، ثم ندير المسرحيات السياسية لملء الفراغ. ومع ذلك كله، فلازالت الحروب المحتدمة، رغم أنها قصيرة الأمد وتنشب على أسباب فارغة، تبقى حيوية جداً بالنسبة لنا.

نعمل على تعزيز نظام مزوّر يمثّل سوق منافسة حرة في بلاد حكم اليمين، وبالمقابل، نكرّس نظام مزوّر يتمثّل بديمقراطية اشتراكية في بلاد حكم اليسار. وبالتالي يصبح لدينا نظام "سوق منافسة حرة" والذي تكون المنافسة فيه مضبوطة ومُعدلّة من قبل البيروقراطية الحكومية التي نتحكم بها. وعلى الجانب الآخر، لدينا مؤسسات اقتصادية مؤممة، ورغم مظهرها الحكومي الصارم، إلا أنها تقع تحت سيطرتنا تماماً. وبهذا، نبقي على مجتمعات بشرية تكون فيها قواعد قوتنا في أمان. أما النظام الديمقراطي الحرّ، فهو ضعيف جداً أمام نفوذنا المالي. فنحن الذين نختار المرشّحين من الأحزاب الرئيسية المتنافسة، ونحن الذين نختار الفائزين. إن كل حملة إصلاحية تُشنّ في البلد تكون من إنتاجنا، والإصلاحات التي ينخدع بها المواطنون قد صممت أصلاً لزيادة نفوذنا.

أما التوتاليتاريات المختلفة المتخذة للمظهر الشيوعي أو الفاشي، فهي لا تمثّل أي خطر علينا طالما أننا نملك فيها معاقل من الملكية الخاصة والتي تخدم كمراكز عمليات لنا. فهذه الحكومات التوتاليتارية، إن كانت يمينية أو يسارية، قابلة للتحكم بسهولة من الخارج، ذلك بسبب هشاشة زعماءها المرئيين بالنسبة للأحزاب المنافسة لهم. الأمر الأهم هو أن هذه الدكتاتوريات تساعدنا على منع ظهور أي أباطرة ماليين يمكن أن يمثلوا تهديداً مباشراً لنفوذنا في أي قارة وأي حضارة وأي عرق بشري.

ربما علي توضيح مسألة الأيديولوجيا في عدة سطور قبل أن أنتهي. إن الأيديولوجية الوحيدة المجدية والأكثر واقعية هي طبعاً وبكل تأكيد: الأنانية العقلانية rational egoism، أي العمل على إشباع الرغبات والحاجات الفردية إلى أقصى حد وبأي وسيلة تثبت جدواها. وهذا يتطلّب القوة على الطبيعة، خاصة، إذا أمكن، القوة على البشر.. الذين يمثلون الأدوات الأكثر نفعاً وبراعة. لحسن الحظ، ليس هناك مجتمعات يكثر فيها الأنانيون المحبين لذاتهم. فمن المستحيل ظهور أباطرة المال في هكذا مجتمعات، حيث أن عملائنا المثقفون والأكاديميون والقانونيون والدينيون وغيرهم من الذين يعقلنون أو يبررون سيطرتنا على المجتمعات من خلال تعاليم ومعلومات مخادعة ومظللة سيتحولون إلى مسخرة وأضحوكة لا تؤخذ على محمل الجد. وفي هذه الظروف، ليس هناك أي بديل سوى نظام يعتمد على مبدأ "عشّ ودع غيرك يعيش"، أو يتحوّل المبدأ العامل بـ"عدم التدخّل الحكومي في الشؤون الاقتصادية الفردية والجماعية" Laissez-faire إلى واقع حقيقي وليس مزيفاً كما هو اليوم، وبالتالي لا بد من أن تسود الفوضى العارمة بين المجتمعات الفوضوية أصلاً. وبالإضافة إلى ذلك، فسوف يصبح من الصعب المحافظة على النظام التراتبي الهرمي باستخدام القوة فقط. فالقوة وحدها في هذه الحالة تزيد من الفوضى أكثر من إخمادها.

لكن في هذا الوضع الراهن، حيث لازالت العقول مخمورة بالتعاليم والأفكار التي تكرّس التفاني والغيرية والمثالية وحب الجماعة وغيرها من مبادئ واهية يكرسها عملائنا الدينيين والأخلاقيين الأكاديميين، فالسياسة العقلانية الوحيدة التي وجب على الأنانيين إتباعها هو استثمار هؤلاء المرشدين الدينيين والأكاديميين الواهمين بهدف التحكم بالآخرين. المتحدث التالي، البروفيسور M، سيشرح تفاصيل المؤسسة الرئيسية التي تستند عليها قوتنا.




البروفيسور M
عن اقتصاديات البنك المركزي
ON THE ECONOMICS OF CENTRAL BANKING

".. يستطيع (البنك) أن يأخذ فوائد المودعين، وفوائد المدخرات المالية المودعة فيه، ويقرضها للناس في السوق. يستطيع كسب الفائدة من هذه القروض، وطالما أن هناك نسبة قليلة من المودعين يطلبون استرداد ودائعهم أو سنداتهم، فلا أحد يمكنه كشف اللعبة... أو، من جهة أخرى، يمكنه إصدار وصول استلام receipts مقابل ودائع لا وجود لها أصلاً، ومن ثم طرحها في السوق كقروض. وهذه العملية الأخيرة تعتبر الأكثر حذاقة ودهاء. فوصول الاستلام الزائفة هذه، سوف يتم تبادلها في السوق على أساس أنها وصول حقيقية لها قيمة، ذلك طالما أنه لا يوجد عليها أي كتابة أو علامة تشير إلى كونها وهمية أو أصلية. وجب أن يكون الأمر واضحاً وجلياً بأن هذا العمل برمته هو خداع واحتيال واضح وصريح..."
موراي روثبارد Murray Rothbard
من كتابه: الإنسان، الاقتصاد والدولة

".. إن المجهود الجريء الذي قام به المصرف الحالي بهدف السيطرة على الحكومة، بالإضافة إلى الضائقة المالية التي صنعها بأساليب خليعة وفاجرة،...، هي مجرّد نذائر منبئة بالمصير الذي ينتظر الشعب الأمريكي إذا استمروا مخدوعين في تخليد هذه المؤسسة (مصرف الولايات المتحدة)، أو أي مؤسسة مشابهة لها.."
أندرو جاكسون Andrew Jackson
الرئيس السابع للولايات المتحدة، 1834

بما أنك حائز على شهادة دكتوراه في علم الاقتصاد من أعظم الجامعات في العالم، سوف أتطرّق بسرعة، وبقدر ما تسمح لي مساحة الإسهاب هنا، إلى حقائق مقبولة ومألوفة في علم الاقتصاد الرسمي، ثم أدخل إلى الموضوع الأهم وهو المظاهر الخفية للمصرفية المركزيةCENTRAL BANKING.

بما أن توزيع العمل (مِهن وحِرف مختلفة) يمثّل المفتاح لكافة الإنجازات البشرية وسد حاجاتها، فمن الضروري وجود نظام تبادل للمنتجات والخدمات المختلفة، خاصة بعد أن أثبت نظام مقايضة السِلع (المعقدّ) عدم جدواه، كما أن اقتصاداً حاكماً حيث كل فرد يعمل ويتلقى ما أُمر به، أثبت عدم واقعيته إطلاقاً لأنه فشل في الاستفادة من المبادرات والمواهب الفردية المميزة. وأخيراً، جاء الوسيط البديل للمقايضة، وهو المال، كحل مناسب جداً. (حتى أن الاقتصاديات الأكثر مركزية، أي على الطريقة الاشتراكية، تتحمّس للمال وتعتبره الوسيلة الأبسط، وحتى الأكثر ضرورية، في مزاولة التخطيط الاقتصادي بنجاح).

حتى في الحالة الطبيعية، عندما تستقرّ مجموعة بشرية في مساحة جغرافية معيّنة، يتفق أفرادها بشكل تلقائي على سلعة ثمينة ثابتة، غالباً ما تمثّل الذهب أو الفضة، لاستخدامها كوسيط لمقايضة السلع فيما بينهم. ومن هنا جاء مفهوم المال. ولأن هذا المال يحوز على قيمة معيّنة، بالإضافة إلى كونه يمثّل وسيط للتبادل التجاري، راح الناس يدخرون جزءاً من مدخول الذهب لديهم بدلاً من صرفه بالكامل. وعندما يتراكم بكميات كبيرة عند الشخص، غالباً ما كان هذا الذهب يُدّخر في مخازن (أقبية مجهّزة جيداً للحماية) الصائغ (صانع الأدوات والحُلي الذهبية)، وهو السلف الأوّل للمصرفي العصري، ذلك من أجل التأمين عليها من النهب أو الضياع. كان المودعين يستلمون "وصل أمانة" receipt يضمن له استرداد ذات الكمية والجودة من الذهب عندما يطلبه من الصائغ.  

في مرحلة معيّنة، أدرك الصائغ بأنه ما من سبب يمنعه من إقراض بعض من الذهب المودع لديه مقابل فائدة طالما أبقى على كمية معيّنة من مخزون الذهب متوفراً لديه بحيث يغطّي نسبة طلبات الاستردادات التي يجريها أصحاب الودائع الحقيقيين. وفي الواقع، كان بكل بساطة يوعد كل مودع بأنه سيدفع على الموعد، رغم أنه لا يملك مدخرات تغطي كافة وعوده لكافة المودعين. والأمر الأفضل الذي اكتشفه مع الوقت، هو أنه يستطيع إصدار كميات كبيرة من "وصول الاستلام" receipts مقابل الذهب بحيث تكون قيمتها النقدية أكبر من الذهب الموجود لديه أصلاً. ووصول الاستلام هذه، التي هي عبارة عن أوراق عادية مكتوب عليها كلام فارغ، يمكن مداولتها بحريّة بين العامة بصفتها مالاً ذات قيمة نقدية حقيقية.

ولكن في النهاية اكتشف الصائغ بأن هناك حدوداً معيّنة لهذه العملية التي اتبعها. فليس كل سندات الاستلام التي أصدرها تستمر في التداول بين العامة إلى الأبد. لقد بدأ معدل طلبات استرجاع المدخرات الذهبية يزداد باطراد بعدما تقع تلك السندات في يد أشخاص لا يؤمنون بالسمعة الحسنة التي يتمتع بها الصائغ. والأمر يزداد سوءاً عندما تقع تلك السندات في أيدي صائغين منافسين للصائغ الأوّل وطامعين بمدخراته من الذهب. لكي يتجنّب الكارثة المتمثلة بنفاذ كامل مدخراته من الذهب، تعلّم الصائغ، من خلال الخبرة المريرة، أنه وجب إبقاء تداول سندات الأمانة التي يصدرها ضمن نطاق محدود. ومع ذلك، كانت القوة التي تجسّدها عملية إصدار سندات الأمانة الخالية من الرصيد إغراءاً كبيراً لا يمكن مقاومته. خاصة بعد أن جعلت للصائغين الدائنين لهذه السندات نفوذاً هائلاً على الحكومات، والصناعيين، والتجار. الكثير من الصائغين استسلموا بشكل غير عقلاني للإغراء، فتمادوا كثيراً بهذه العملية (إدانة السندات دون رصيد) فجلبوا لنفسهم وللمودعين عندهم الدمار الكامل، بينما الآخرون الذين كانوا يجرون عملية الدين هذه ببطء وتعقّل، ووفق سياسات حكيمة بعيدة النظر، أصبحوا مصرفيين أثرياء ونافذين جداً.

عند هذه النقطة، ووفق علم الاقتصاد الرسمي، يمكن اعتبار "المصرف المركزي" مؤسسة وُجدت أساساً لحماية العامة من الكوارث المالية الدورية التي يسببها المصرفيين المودعين المجردين من الضمير، والمبعثرين دون تنظيم في كافة أنحاء البلد. مع انه في الحقيقة، هذا التعريف الرسمي للمصرف المركزي هو بعيد جداً عن الواقع الحقيقي. لقد وُجد المصرف المركزي أصلاً من أجل إزالة الحدود التي تحد من تداول السندات الخالية من الرصيد، والتي واجه المصرفيون الصغار (الصائغ) مشكلة في تجاوزها. منذ أيام حضارة بابل والحضارة الهندية القديمة، تم إنشاء "المصرف المركزي"، الذي يعتمد أساساً على فن التحكم بإصدار الأموال، وتطوّر هذا الصرح إلى مستويات راقية جداً بحيث اتبع الكهنة (المصرفيون) سياسات ذكية جداً لنهب الناس دون أي معرفة أو إدراك منهم بذلك. وحتى اليوم، لازال الكثير من المصرفيين العصريين يتبعون التقاليد ذاتها التي اتبعها الكهنة المصرفيون في تلك العصور الغابرة، لدرجة أنهم بنوا مصارفهم الحديثة لتظهر على شكل معابد مشابهة لتلك التي كانت قائمة في ذلك الزمن البعيد! إن مظهر التحصين المنيع للمصرف المركزي يشكّل جزءاً أساسياً من الخداع الذي تستند عليه النخب المالية النافذة.

دعونا ننظر إلى الطريقة التي يتأسس من خلالها مصرفاً مركزياً في بلد جديد لم يشهد مثل هذه المؤسسة المالية سابقاً. نتقدم نحن المصرفيون من الأمير أو النخبة الحاكمة (ومهما كان نوع الحكام، فجميعهم بحاجة دائمة للمال لتمويل صراعاتهم وحروبهم، أو إرضاء شعوبهم بإصلاحات آنية، وجميعهم بشكل عام جاهلون تماماً في علم الاقتصاد)، نقترح عليه ما يلي: "..امنح مصرفنا امتيازات حصرية على المستوى الوطني من أجل ضبط وتنظيم معاملات المصارف الخاصة في البلاد، ذلك عن طريق السماح لنا بإصدار سندات مالية قانونية مفروضة على الجميع، أي، اجعل سنداتنا مفروضة قسراً على سوق التداول بحيث تُقبل كسندات مالية قابلة لأن تُستخدم لسد الديون، العامة والرسمية. وفي المقابل، سوف نزوّد الحكومة كل السندات التي تتطلبها، مقابل فوائد معيّنة سهلة الدفع من خلال الضرائب المُستحقة التي تجمعها الحكومة. إن ازدياد القوة الشرائية للحكومة، بعد تعاقدها مع مصرفنا المركزي، سوف يزيد حتماً من قوة هذه الدولة (المزعزعة سابقاً) وهيبتها، كما أن هذا الوضع ينشّط اقتصادها المتثاقل والمكسور أصلاً، فيرفعها إلى حالات ازدهار غير مسبوقة. والأمر الأكثر أهمية هو أن حالات الذعر العنيفة التي تسببها المصارف الصغيرة من خلال الانهيارات المالية التي تنتجها بشكل دوري في البلاد، سوف يتم استبدالها بمصارفنا العادلة وأموالنا النظيفة التي تخضع لإدارة علمية وراكزة. وسيبقى خبرائنا "الميالون لخدمة المصلحة العامة أولاً" في خدمة الدولة وتحت تصرفها، بينما نحن نبقى مستقلون إلى حد ما من أي ضغوط سياسية آنية تفرض علينا سياسات إدارية معيّنة.."

لبعض الوقت، يبدو بأن هذا النظام يسير بشكل جيد جداً، حيث ازدهرت البلاد وتوفرت فرص العمل للجميع. لكن الحكومة وعامة الشعب لا يفطنون أبداً إلى أننا، الذين أصدرنا السندات المالية الجديدة، نستخدم هذه السندات الزائفة المخلوقة من لا شيء، لقيامنا، وبشكل سرّي، ببناء إمبراطوريات اقتصادية على حساب الفوائد المالية الملموسة (أي لها قيمة حقيقية) المُستبدلة بالديون الممنوحة على شكل سندات مزيّفة (ليس لها أي قيمة). وبسبب القوانين الصادرة من الحكومة والتي تفرض على السوق التعامل بسنداتنا المالية حصراً، فبالتالي، القليل من هذه السندات التي يصدرها المصرف المركزي تُسترجع إليه طلباً باستبدالها بقيمتها من الذهب. وفي الحقيقة، قد تبدأ كافة المصارف الخاصة المحلية، وحتى بعض المصارف الخارجية، باستخدام السندات الصادرة من المصرف المركزي كودائع مالية لها قيمة حقيقية، وبالتالي تبدأ بإصدار سندات أمانة تستند على مخزونها من سندات المصرف المركزي وليس الذهب. لكن رغم ذلك، وبعد فترة من الوقت، تبدأ الأسعار بالارتفاع لأن إصدار السندات الزائدة ترفع معدل الطلب المتعلق بكمية السلع والخدمات. مع انخفاض قيمة مدخراتهم أكثر وأكثر، يبدأ الأجانب (المودعين من خارج البلاد) بشكل أخص، بالتساؤل عن قيمة السندات التي يصدرها المصرف المركزي ومن ثم يباشروا فوراً بطلب استعادة المدخرات الذهبية التي تمثّل قيمة هذه السندات. نحن طبعاً لا نتحمّل مسؤولية هذا التضخّم المالي الهائج عند حصوله. فنحمّل المسؤولية على المضاربين الأشرار الذين يرفعون الأسعار لغاياتهم الشخصية، وبالإضافة إلى رمي المسؤولية على الشريحة العمالية المنظّمة (الاتحادات عمالية) وكذلك على أصحاب المؤسسات والمنشآت التجارية/الصناعية الذين أساءوا التحكم بمعدلات الرواتب وأسعار المنتجات والخدمات. حتى المستهلك يُجعل مذنباً لأنه قبل بالأسعار المرتفعة دون أي شكوى! خلال حالة الإرباك والفوضى التي تصيب الحكومة اليائسة، تقبل بالتحاليل الزائفة التي يقدمها خبرائنا المصرفيون لهذه المسألة الطارئة، فتستمر في منح المصرف حرية التحكم والتصرّف بالسياسة المالية للبلاد أملاً بإصلاح الوضع.

من خلال إبطاء معدل إصدار السندات دورياً، يمكن حينها تأجيل المرحلة القصوى للأزمة المالية لفترة عشرات السنين بعد منح المصرف المركزي امتياز الحكومة لحصرية استخدام سنداته المالية. قبل النفاذ السريع لمخزون الذهب الذي يعتمد عليه مصرفنا لنيل الثقة، نقوم فوراً بتقليص حجم قروضنا الممنوحة للصناعات الخاصة وكذلك للحكومة. ونتيجة لهذا التقليص في إمداد المال، تتجسّد حالة إنكماش كُبرى ويحصل الانهيار الكبير بكل ما يلازمه من حالات بطالة، إفلاس، وبلبلة شعبية عارمة. وفي هذه الحالة أيضاً، نحن لا نتحمّل مسؤولية هذه النكبة الاقتصادية الحاصلة. فنلقي اللوم على المحتكرين الذين يرفضون صرف أموالهم، وكذلك على أنبياء الشؤم الذين يخرّبون الثقة التجارية والأعمال. وكما هي الحال دائماً، تتقبل الحكومة هذه التحليلات التي يقدمها خبرائنا المصرفيين وتستمر في إبقاء السياسة المالية بين أيدينا الأمينة والحكيمة. وإذا سارت الأمور جيداً فيما بعد، نبدأ (نحن المصرفيون) بنفخ الأفكار المتمرّدة والثائرة في أوساط الحركات الشعبية العميلة لنا وبالإضافة إلى مجموعات الضغط الخاضعة لسيطرتنا، فتطلق هذه الحركات انتفاضة كبيرة غالباً ما تتخذ مظهر جماهيري عارم، حيث تدفع بقيادات سياسية عميلة لنا إلى مراكز السيطرة في الحكومة. بعد تولّي القيادة، نعمل على خفض قيمة سنداتنا المالية وفق معيار الذهب ونجعلها غير قابلة للتحويل لعملة أجنبية، باستثناء حالة التعامل مع مصارف مركزية أجنبية، ثم نبدأ برسم الخطط لاستعادة الازدهار في البلد، لكنه هذه المرّة يكون ملكنا تماماً وتحت سيطرتنا المطلقة.

عندما نكون محظوظين، بإمكاننا مصادرة الذهب العائد للمواطنين كملكية خاصة، ذلك كعقوبة على تخزينه وإخفائه خلال حالة النكبة الاقتصادية الكبرى التي عمّت البلاد.

بعد قهر المنظومة الاقتصادية القائمة سابقاً أثناء الفوضى الناتجة من الانهيار والركود الذي سببته النكسة الاقتصادية، يصبح المجال مفتوحاً أمام تحقيق منظومتنا الرأسمالية التمويلية المتكاملة. إذا استطاع أباطرة المال وراء المصرف المركزي أن يتجنبوا دخولهم في منافسات سياسية واقتصادية فيما بينهم، فسوف ننجح بتأسيس نظام جديد قابل لأن يستمر إلى الأبد. يمكن لحالة حرب، يتم توقيتها مع هذه الفترة الانتقالية/الترسيخية، أن تشكّل حجّة مناسبة لتجنيد قوى ضاربة مطلوبة لسحق أي معارضة لنظامنا الناشئ حديثاً.

البروفيسور B، وهو رئيس مجلس إدارة سابق لأحد المصارف المركزية، سوف يشرح لك عن آلية عمل المصرف المركزي في الأنظمة الرأسمالية المتطورة.




البروفيسور B
عن آلية المصرف المركزي في المنظومة الرأسمالية الناضجة
ON THE FUNCTION OF THE CENTRAL BANK IN THE MATURE FINANCE CAPITALIST SYSTEM


".. سوف ينتهي أمرنا، يا سيدي العزيز، إذا استمرّت السلطة التشريعية في صنع أموالنا، إكثارها أو تقليلها، جعلها زائفة أو حقيقية، كل ذلك بالتوافق مع مصالح خاصة تختار هذه الحالات المتناوبة.."
الرئيس الأمريكي ثوماس جفرسون Thomas Jefferson

".. من الآن وصاعداً النكسات الاقتصادية سوف تُخلق بشكل علمي مُمنهج.."
تشارلز.أ. ليندبيرغ Charles A. Lindberg
عضو في الكونغرس الأمريكي، 1923م

في شكله النموذجي، المصرف المركزي هو عبارة عن مؤسسة احتكارية خاصة private monopoly للإجراءات المالية لدولة معيّنة، أي تصدر الأموال وتمنح الديون بدعم كامل من قبل سلطة الدولة التي تجعل هذا النظام المالي الحصري إجبارياً في البلد. إن كون خضوع المصرف المركزي لسلطتنا المباشرة يبقى أمراً حيوياً حتى ننتهي من تأسيس نظامنا الرأسمالي الجديد عبر التحكم بكافة الشرائح الاجتماعية: السياسية والحكومية والفكرية والتجارية. بعد ترسيخ دعائم النظام الجديد، يصبح من المستحسن جداً إجراء تأميم كامل للمصرف المركزي، ذلك عبر مسرحية انقلابية تحدث ضجة وبلبلة كبيرة، لكي نتخلّص من أي ريبة أو اشتباه بحقيقة أنه يعمل لمصلحة جهات خاصة. وطبعاً، بعد تأميم المصرف، لا يُسمح سوى لعملاء مخلصون للعائلة فقط أن يعتلوا مراكز إدارية قيادية فيه وبهذا يبقى نفوذنا قائماً. فالاحتكارات الخاصة الظاهرة تكون مُستهدفة دائماً من قبل المحرّضين الفاجرين على الإصلاح. لكن مع ذلك، فقط الأكثر هوساً بنظرية المؤامرة والاضطهاد يستطيعون الرؤية بوضوح عبر البهرجة الوطنية المظللة التي تختبئ وراءها الاحتكارات العائلية الخاصة للمصارف المركزية الوطنية والشبه وطنية.

المصرف المركزي هو الاحتكار الرئيسي الذي تستند عليه كافة قوانا الاحتكارية. فالقوة الخفية للمصرف المركزي، حيث يُخلق المال من لا شيء، تُعتبر الينبوع الرئيسي الذي يغذّي إمبراطوريتنا المالية والسياسية المترامية الأطراف. سوف أجري مسحاً سريعاً لبعض مظاهر استخدام هذه القوة المالية الخفية.

بشكل أساسي، نستمدّ قوة مصرفنا المركزي من خلال سيطرته على كافة النقاط الأساسية للاقتصاد القائم بواسطة المال المتضخّم الذي يخلقه من لا شيء. وفي هذه الحالة، عادةً ما يشتري المصرف أوراق التبادل المالي bills of exchange، أوراق القبول المالية acceptances، سندات مالية خاصة  private bonds، سندات مالية حكومية government bonds ، وسندات دين أخرى مختلفة، ذلك عبر عملاء حُظوة مختارين، بهدف طرح الأوراق النقدية الجديدة في التداول. يُسمح للعملاء المحظوظين بمكاسب مالية كبيرة من هذه العملية طالما أنهم يمثّلون واجهات لوكلائنا. إن شرائنا لرهون الحكومة يسعد الحكومة، كما أن شرائنا للديون الخاصة يُسعد المدينون الخاصون. ومقابل خدمتهم المخلصة لنا، نمنح وكلائنا البارعون مناصب إدارية رفيعة ومتوسطة في المؤسسات الخاصة والحكومية الخاضعة لنا. خلال نمو وتعاظم هذا الإدمان على الكسب السريع في فترات التضخّم المالي، يزداد طلبنا رويداً رويداً للمزيد من السيطرة والتحكّم بأتباعنا وتوابعنا المدمنين، إن كانوا حكومات أو مؤسسات خاصة. بعد أن ننتهي من شراء الديون بحجة "محاربة التضخّم"، تبدأ المؤسسات الخاصة والحكومات المكسورة بالسقوط في أيدينا الواحدة تلو الأخرى، فيتم إنقاذها من وضعها البائس لكن مقابل ثمن بسيط: سيطرتنا الكاملة عليها.

بالإضافة، نحن المصرفيون الحاكمون نسيطر على جريان الأموال في الاقتصاد عبر السلطة الواسعة للمصرف المركزي، إن كان من ناحية الترخيص، أو تدقيق الحسابات، أو ضبط وتنظيم المصارف الخاصة. البنوك التي تمنح قروضاً مقابل فائدة، والتي تكون خارجة عن حظيرة أتباعنا المخلصين، سوف يتم تدقيق حساباتها من قبل المصرف المركزي الذي يجد بأنها بالغت كثيراً في منح الأموال overextended. ومجرّد تلميح السلطات الإدارية للمصرف المركزي بأن هذا المصرف الخاص معرّض للإفلاس كافي لأن يقع هذا المصرف المتمرّد في مأزق كبير مع المودعين بعد أن فقد مصداقيته، فتجفّ كافة إمداداته المالية المنعشة، فينهار فوراً ويختفي من الوجود. لم يمضي وقت طويل قبل أن تتعلّم كافة المصارف أوتوماتيكياً معنى إشارات التلميح وهزّ الرأس التي يتبعها عملاء والدك في المصرف المركزي.

وكذلك، الدورات المتناوبة للمال السهل والمال المشدود التي نحددها من خلال سيطرتنا على المصرف المركزي يسبب تأرجحات متناغمة معها في الأسواق. حلقتنا الداخلية تعلم مسبقاً بتوقيت هذه الدورات وبالتالي تستغلها أحسن استغلال من خلال المضاربة في البضاعة والسلع، الودائع، العملات، الذهب، سوق السندات، وغيرها. إن هذا التبادل والتصريف الاحتكاري الدوري للودائع والسلع يُعتبر مرفداً حيوياً لقوتنا التي نستمدها من قوة المصرف المركزي. نحن لا نسمح بوجود أسواق مزاد علني عادلة ومنصفة، لكننا نصنع بهرجة مسرحية كبيرة تظهر إجراءات حكومية قاسية لضبط وتنظيم هذه الأسواق من أجل خلق شعور بالثقة في نفوس المستثمرين والمضاربين الصغار. بمساعدة المسرحيات التنظيمية، وبالإضافة إلى نفوذنا المالي، نستطيع المحافظة على عمليات المبادلة والتصريف المُصممة أساساً لتناسب حاجات أتباعنا المخلصين، فنتلاعب بأسعار الودائع على حساب المضاربين المستقلين. أما اختصاصيينا الحظوة على أرض سوق التبادل، والمدعومين بالبروبوغاندا التي يصنعها إعلامنا المالي ووكالات السمسرة التابعة لنا، فيلعبون دائماً على براءة وطمع الغافلين بهدف استنزاف كافة مدخراتهم لتملأ خزينتنا.

إن الودائع والتأمينات والرهون والسلع الداخلة في حسابات المقايضة لوكالات المبادلة والسمسرة توفّر لنا هيمنة ملكية تتجاوز حدود ممتلكاتنا الفعلية، وبالتالي نستطيع التحكم والتلاعب بالأسعار ونكسب في منافسات التوكيل التي تسمح لنا بالاستيلاء على شركات بكاملها.

الخطر الوحيد، ولكنه صغير، على لعبتنا المربحة جداً، يأتي من إجراءات الضبط والتنظيم الحكومية النابعة من روح إصلاحية حقيقية. لكن مع ذلك، فإن تعاملاتنا في هذا الأمر معقّدة جداً لدرجة أن ألمع المتخصصين يعجزون عن استيعابها وشمول كافة جوانبها. وبالنسبة لمعظم الاختصاصيين الاقتصاديين، تُعتبر عملياتنا التبادلية مجرّد جهود بريئة تساعد على موازنة السوق واستقراره.

نحن المصرفيون المسيطرون، إذا استطعنا المحافظة على السلام فيما بيننا، سوف نصبح أغنى وأغنى مع مرور الوقت دون أن نزعج أنفسنا في بذل أي جهود إضافية لها فائدة للآخرين. المتكلّم التالي، البروفيسور G، سيناقش أسرار السياسة والتشريع الاجتماعي، والتي تساهم كثيراً في التثبيت من وطأتنا ونفوذنا.



البروفيسور G
حول السياسة والتشريع الاجتماعي والتجاري
ON SOCIAL AND BUSINESS  LEGISLATION AND POLICY

".. ليس هناك أي حركة بروليتارية، ولا حتى شيوعية، التي لم تعمل لمصلحة المال، واتخذت توجهات حددها المال، وقامت أساساً بدعم المال... وكل ذلك دون أن يدرك المثاليين بين صفوف قياداتها ولا حتى شعورهم بذلك.."
أسوالد سبنغلر Oswald Spengler
في كتابه: انحدار الغرب Decline of the West

"..وكذلك في اجتماع SDS (منظمة طلابية راديكالية تأسست عام 1960)، حاول رجال من نوادي تجارية عالمية أن يشتروا ضمائر بعض الراديكاليين. هؤلاء الرجال يمثّلون قادة الصناعيين العالميين الذين يقررون كيف وجب أن تكون حياتنا...وقد عرضوا علينا أيضاً أموال "إيسو" Esso (شركة روكفيللر النفطية). يريدون منا إحداث فوضى وبلبلة راديكالية لكي يظهرون أمام العامة بأنهم في الوسط ويميلون نحو اليسار.."
جيمز كونين James Kunen
في كتابه: "بيان الفراولة: ملاحظات ثوري جامعي"

الخطر الذي قد يواجهه نظامنا لا يأتي من الجماهير التي سوف تنتفض ضدنا وتجرّدنا من قوتنا. فالجماهير لم ولن تبدأ أي شيء من تلقاء ذاتها مطلقاً عبر التاريخ. فجميع الحركات الناجحة تم تدبيرها وقيادتها من الأعلى، من قبل رجال مثل والدك ذات الحيلة الواسعة والخطط اللامعة. وعادة ما يأتي هذا الدعم من الأعلى دون أي علم من الحركة أصلاً. الخطر الحقيقي يبرز من الشريحة العليا من الطبقات المتوسطة. فأحياناً يجمع بعض من أفراد هذه الشريحة أموالاً طائلة جداً نتيجة ابتكارهم أو تطويرهم لتكنولوجيا لامعة فيسوقونها للعامة عبر مؤسساتهم الخاصة أو عبر دعم أحد السياسيين المحليين المتحررين من نطاق تأثيرنا. لكن مع ذلك، وبسبب جهلهم عن المدى الحقيقي لنفوذنا، غالباً ما يقع هؤلاء الأغنياء الجدد (حديثي النعمة) في أيدينا بسهولة. فمثلاً، نادراً ما يكتشفون قبل فوات الأوان بأن العشرات من القروض التي يدينون بها للمصارف الخاصة المستقلّة ظاهرياً يمكن أن يُطلب استعادتها في أي وقت، فقط بإشارة صغيرة من والدك. الخطر الأكثر جدية يتمثّل بهؤلاء الذين تكون مؤسساتهم ناجحة جداً لدرجة أنها ذاتية التمويل. لكن منذ أن تم فرض ضريبة الدخل على الشركات، أصبحت هذه المؤسسات ذاتية التغذية نادرة جداً. أما الأمر المزعج والأكثر إرباكاً، فهو عندما يذهب حديثي النعمة لطلب الدعم والاستشارة من الخصوم المنافسين لوالدك على المستوى العالمي. وهذا يمثّل خطراً داهماً، خاصة في بلاد فيها تقاليد ديمقراطية عريقة، حيث من الصعب تطبيق أساليبنا الاستبدادية الخفية هناك.

الحل الأفضل لمنع حصول أي من هذه الحالات المزعجة هو تفعيل قوانين تفرض ضرائب وتعديلات تجارية شاملة باسم الحفاظ على المصلحة العامة. هذه الإجراءات تساهم في تقليص حالات ظهور "حديثي نعمة منافسين" إلى مستوى قابل للضبط والسيطرة. هذه السياسة طبعاً تعمل على خنق الابتكار والتطوير والإنتاجية. إن تخفيض الناتج الوطني GNP في البلدان الخاضعة لسيطرة والدك قد يمثّل سياسة مقبولة لمصلحة ضمان النفوذ تحت قناع المحافظة على البيئة، أو على كائنات منقرضة، وغيرها. لكن إذا ذهبت هذه السياسة بعيداً فسوف يضعف سلطان والدك في ذلك البلد مقابل دخول منافسيه العالميين. إن أصعب مسألة يمكن أن يواجهها سيّد المال هو تحديد مستوى الحريات الاجتماعية والاقتصادية التي يتجرّأ بسماحها لاستمرارية نفوذه العالمي. الطريقة الوحيدة هي خلق موطن مركزي يُسمح فيه بحريات معيّنة مُراقبة بحذر، بحيث يُستخدم كقاعدة مركزية للقوة العسكرية/الاقتصادية المطلوبة للمحافظة على إمبراطوريته العالمية المؤلفة من دكتاتوريات توتاليتارية مختلفة حول العالم (يُقصد بهذه القاعدة المركزية الولايات المتحدة الأمريكية). ومن أجل ضمان عدم تجاوز الحريات الاجتماعية والاقتصادية الحدود الآمنة، وُجدت الإجراءات التالية ضرورية من قبل جميع أسياد المال تقريباً:

1ـ ضريبة الدخل المتراكمة Steeply Graduated Income Tax:
ضريبة الدخل لا تؤثّر علينا لأن أموالنا قد جُمعت قبل صدور قوانين فرض الضرائب، ومعظمها الآن أصبح محمياً بأمان في شبكة واسعة من المؤسسات المعفية من الضرائب. يمكن استخدام مدخول هذه المؤسسات ورؤوس أموالها قانونياً لتمويل جهاز البروبوغاندا الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والفكري. ويمكن بنفس الوقت تحويلها إلى استخدامات غير قانونية من خلال حركة بسيطة. الدراسات الباهظة الثمن التي تتطلبها عملياتنا الاقتصادية المربحة يمكن تمويلها عبر هذه المؤسسات أيضاً.

لكن في الجانب الآخر، وبالنسبة للطبقات الوسطى، فضريبة الدخل تجعل حياتهم عبارة عن طاحونة أبدية. إنهم في سباق دائم مع الريح. حتى أولئك الأكثر إنتاجية يجدون أنفسهم غير قادرين على تجميع رأس مال ذات قيمة. إنهم مجبورون على الوقوع في قبضة أتباع وعملاء مصرفنا المركزي لتناول حُقن منشّطة والمتمثلة بالقروض التضخمّية inflationary credit التي لنا الحظوة في خلقها من العدم. أما الثراء الهائل المتراكم ذاتياً الذي تمتع به بارونات اللصوصية robber barons في القرن التاسع عشر وملوك المال tycoons في القرن عشرين، فلم يعد ممكناً الآن إطلاقاً. كان جدك من بين الذين استفادوا من تلك الفترة المفتوحة لجمع ثروته الخارقة، لكن كان أيضاً من بين المجموعة التي شيّدت جدار "الضرائب" المنيع الذي يقف عائقاً أمام حديثي النعمة للوصول إلى مستوى الثراء الخارق. أرجو الانتباه إلى أنه في البلدان الديمقراطية الأمر يتطلّب حذراً كبيراً وحيطة دائمة لمنع جدار الضرائب من التعرّض للاختراق على يد أحد المشرّعين المتآمرين، والذي يكون أصلاً من الضحايا الذين عمل هذا القانون الضريبي على إعاقة مسيرة تقدمهم في الحياة، حيث غالباً ما ينتمي هؤلاء للشريحة العليا من الطبقة الوسطى.

2ـ قوانين ضبط وتنظيم التجارة والأعمال Business Regulation:
عندما يفلت حديث النعمة من شباكنا المالية ويتجاوز جدارنا الضريبي، ربما بدعم من جهات خارجية، أصبح من الحيوي جداً تشييد خط دفاع آخر، ويتمثّل بالتحكّم في عملية الترخيص في المجال المهم جداً والمتمثّل بالبثّ الإذاعي المرئي/المسموع، والذي أثبت فاعليته وجدواه. هذا يجعله من المستحيل ظهور منافسة سياسية وشعبية واسعة يمكن أن يقودها حديثي النعمة. أما المضايقات التي يقوم بها عملائنا البيروقراطيين المسلّحين بعدد كبير من القوانين والتشريعات الاقتصادية التحكمية، فتمثّل وسيلة فتاكة أثبتت مفعولها الكبير. أما المتطلبات التعطيلية التي تفرضها وثائق وشروط تأمينية "من أجل حماية المستثمرين الصغار"، فيمكنها أن تسبب عقبات كبيرة أمام محاولات حديث النعمة لجمع رأسمال مُعتبر في السوق. أما الاعتبارات البيئية، فيمكن تحريفها بسهولة لإحباط مخططات كل من حاول تعكير استقرار منظومتنا المرسومة بعناية.

أما قانون منع الاحتكار والمحافظة على المنافسة الحرة في السوق Anti-trust law، فيُعتبر سلاحنا الأساسي. لقد أوجدنا العقيدة القائلة بـ"المنافسة النقية والمثالية"، والتي تربت عليها العقول اليافعة في الجامعات، ليس لأي غاية سوى لتجريم أي منافس ناجح برز فجأة في السوق. إذا قام هذا المنافس بطلب أسعار منخفضة تقلّ عن أسعارنا، فسوف يُتهم بـ"المنافسة غير العادلة" تهدف إلى إخراج الآخرين من الساحة وبالتالي تعطيل عملية المنافسة في السوق. وإذا طلب نفس الأسعار التي نطلبها نحن، فسوف يواجه تهمة التواطؤ. وإذا طلب أسعاراً أعلى من أسعارنا، فسيبدو واضحاً بأنه يستغلّ قوته الاحتكارية على حساب المستهلكين. لحسن الحظ، فإن أحكام بيروقراطيينا هي معقّدة جداً لدرجة أنه لو نجح حديث النعمة في الاستئناف ضدها في المحاكم فسوف تمضي سنوات عديدة قبل إصدار الحكم. وخلال هذه السنوات الطويلة، نكون قد قضينا عليه عبر المضايقات المختلفة والمتنوعة التي ستحطمه بالكامل.

أما القوانين المتعلقة بـ"جودة السلعة"، و"صلاحية المنتج"، ونظام فحص واختبار المنتوجات، فتمثّل وسائل ممتازة تمكنا من عزل الصناعات العريقة من المنافسة الجدّية المحتملة.

3ـ المساعدات المالية، ضرائب الحماية، والمعونة الأجنبية Subsidies, Tariffs, and Foreign Aid:
رغم أن المساعدات المالية المباشرة يمكن الحصول عليها أحياناً لأتباعنا من الشركات والمؤسسات عبر استجداءها من الجماهير "الراغبة في المحافظة على الوظائف"، لكن هذه الوسيلة الاستغلالية هي مفضوحة جداً. أما قوانين ضرائب الحماية، فيمكن تمريرها بسهولة عبر المجلس التشريعي، لكنها تؤدي إلى ظهور نقمة ضدّ أملاكنا الخارجية.أما المعونات الأجنبية والقروض الحكومية المُسهّلة والمضمونة (المُصممة بطريقة تبدو عفوية)، فهي الوسيلة المناسبة جداً للظروف العصرية. المعونات الأجنبية تحافظ على إمبراطوريتنا المؤلفة من الدكتاتوريات المختلفة في الخارج، حيث تضمن مبيعات مضمونة ومربحة جداً لشركاتنا المتمركزة في القاعدة الأمّ (الولايات المتحدة). وجب على المعونات الخارجية أن تكون مشروطة، أي تُمنح للدول الأجنبية بشرط أن تشتري السلع أو الخدمات، غالباً ما تكون قطع حربية، التي فقط شركاتنا ومنشآتنا تصنعها أو توفّرها. وبشكل عام، القليلون جداً لديهم الجرأة الأخلاقية لمعارضة هذه المعونات "الإنسانية" للشعوب الجائعة في بلدان العالم الثالث.

4ـ مركزة السلطة Centralization of Power:
إن التقسيم الحقيقي للسلطات بين الحكومات المحلية، وحكومات الولايات، والحكومة الوطنية يُمثّل خطراً داهماً لمنظومتنا. عندما يحوز السياسيين المحليين على حكم ذاتي حقيقي، حتى لو كان ذلك ضمن نطاق محدود، يمكنهم فعل الكثير في دعم حديثي النعمة ليبرزوا ويشكّلوا تهديداً لقوتنا. هدف برنامجنا هو جلب كافة مستويات الحكومة إلى مجال نفوذنا المباشر، وذلك من خلال بِدع مُبتكرة مثل "المعونة الفدرالية" federal aid، "تقاسم العوائد" revenue sharing، "نظام ضريبي فدرالي مرتفع" high federal taxation، وأخيراً إنشاء "حكومات إقليمية"regional government.

5ـ التحالف مع الطبقات الأدنى Alliance with the Lower Classes:
من أجل إبقاء آلياتنا القانونية الضابطة في مكانها وتحت سيطرتنا المباشرة، وجب علينا الحوزة على دعم الطبقان الدنيا المتنوعة ضد منافسينا الشرسين، لكنهم نادرين، التابعين للطبقة الوسطى. الوسيلة الأفضل هي تأمين المعونات لهذه الطبقات الدنيا على حساب الطبقة الوسطى. هذه الطريقة تخلق عداوة وحقد متبادل بينهما، وبالتالي يمنع الطبقة الوسطى من الاستنجاد بالطبقات الدنيا للحصول على دعمها. فعلى حساب الضرائب المفروضة على الطبقات الوسطى، يمكن توفير: التأمين الاجتماعي، عناية صحية مجانية، منافع بطالة، وبالإضافة إلى مساعدات مدفوعة مباشرة، وعيرها من نِعم تُغدق على الطبقات الدنيا، فيخلق نتيجة ذلك شريحة إتكالية عريضة تدعم هذه الإجراءات التي شرّعناها وغالباً ما تكون واضحة لهم بأن هذه العملية تمثّل اتفاقية مصالح مشتركة، أي أن ذهابنا يعني ذهاب هذه المعونات. وجب العلم بأن الاتحادات العمالية الرئيسية انطلقت أصلاً من دعمنا المالي، ولازالوا حتى هذا اليوم يتبعون قيادات مختارون من قبلنا. لا يمكن لأحد أن يصعد إلى القمة إتحاد عمالي ويبقى هناك طويلاً دون دعمنا المالي. بالرغم من خطابهم الثوري، إلا أن قادة الاتحادات هم مصدر قوتنا في إدارة المنشآت العملاقة. الإتحادات العمالية تمثّل السلاح الفتاك الذي نستخدمه لتدمير المنافسين المُحصّنين جيداً ضدنا من خلال التمويل الذاتي. وبالإضافة إلى ذلك، فالإخفاض المرن للرواتب والأسعار دون حصول أي تمرّد بين الاتحادات سيزيد من قدرة الاقتصاد بالبقاء قائماً دون حاجة لمساعداتنا المالية خلال الأزمات الاقتصادية التي نخلقها.

لازال الخبز والسرك يعتبران أدوات مفيدة اليوم كما كانت في عصر الرومان لتحريك الحشود ضد الخصوم. فيما يلي، سيشرح لك البروفيسور D سياساتنا المتعلقة بالتربية والتعليم.




البروفيسور D
حول دور التربية والتعليم
ON THE ROLE OF PUBLIC EDUCATION

".. في أحلامنا، لدينا موارد غير محدودة، والناس يسلمون أنفسهم بخضوع مذهل في أيدينا المُقولِبة. الأعراف التعليمية الحالية تتلاشى من عقولنا، لكن من دون الخروج عن التقاليد، سوف نعمل بنيّة حسنة تجاه هؤلاء البسطاء المتجاوبين والشاكرين... سوف لن نجعل من هؤلاء الناس أو أولادهم فلاسفة أو مثقفين، أو رجال علم. سوف لن ننشئ من بينهم كتّاب، محرّرين، شعراء، أو أدباء. سوف لن نبحث عن موهوبين يافعين من الفنانين، الرسامين، موسيقيين، محامين، أطباء، واعظين، سياسيين، رجال دولة، بحيث لدينا الكثير منهم... المهمّة التي وجب وضعها نصب أعيننا هي بسيطة كما أنها جميلة، وهي تدريب هؤلاء الناس لعيش حياتهم كما هي الآن لكن بجودة أكبر. لذلك سوف نقوم بتنظيم أطفالنا ونعلّمهم كيف يمارسون الأعمال بطريقة أكثر كمالاً واتقاناً مما يقوم به آبائهم وأمهاتهم في المنزل، الدكّان، والحقل..."

أوّل رسالة موجّهة من القسّ "فريدريك غيتس" إلى المجلس التعليمي العام في 1904م،
تعبيراً عن القصد من الدعم المالي الذي أغدقه روكفيللر على المؤسسات التعليمية


".. المنهج التعليمي الحكومي هو عبارة عن بِدعة تهدف إلى قولبة الناس بحيث يتطابقون مع بعضهم البعض، وبما أن القالب الذي يشكّل طريقة تفكيرهم هو من تصميم القوى النافذة في الحكومة، إن كانت تمثّل سلطة دينية، ملكية، أرستقراطية، أو حتى المعتقد الشعبي العام، فبالتالي هو ابتكار ناجح جداً بحيث ينمي نوع من السيطرة الاستبدادية على العقل، فيؤدي إلى كبت الميول الحقيقي التي وجد من أجلها العقل.."

 جون ستيوارد ميل John Stuart Mill

من أجل المحافظة على منظومة نفوذنا وقوتنا، فلا بد من أن تمثّل المؤسسات التعليمية الرسمية (حول العالم) عنصراً أساسياً يستحيل الاستغناء عنه. أما بخصوص التعليم الخاص الفوضوي، فيمكنه أن يسبب في انتشار أفكار خطيرة لا يمكن احتمالها. لهذا السبب جعلنا التعليم الخاص مستحيلاً من الناحية المادية على الجميع باستثناء أبناء النخبة المنتمية لأتباعنا وحاشيتنا من الماليين، ذلك من خلال فرض تكاليف مالية منهكة جداً وبالإضافة إلى شروط قانونية مستبدة وجب تجاوزها قبل الحظوة بمدرسة خاصة. إن الهدف الرئيسي من التعليم الرسمي العام هو غرس فكرة أن مؤسساتنا الغاصبة واحتكاراتنا الظالمة قد خُلقت من أجل المصلحة العامة، وذلك على يد أبطال وطنيين وضعوا حداً لنفوذ المتمولين المجرمين. يتمثّل الأمر الحاسم في خلق الانطباع بأنه، رغم أن الناس تعرضوا للاستغلال في الماضي، إلا أنهم اليوم تحت حماية حكومات قوية جداً وتديرها الإرادة الشعبية الممثلة بشخصيات حكومية وطنية.

لكن بالنسبة لهؤلاء الأكثر وعياً وإدراكاً والذين يرفضون هذه النظرة السطحية والمتفائلة جداً للواقع، نعمل على تسويق وتعزيز "العقلية الإصلاحية الليبرالية" التي تنادي دائماً بقدوم فترة إصلاحية كبيرة في المستقبل القريب وسوف تحطّم كافة معاقل وآثار أباطرة المال. طبعاً، هذه الإصلاحات، التي تأتي على شكل نشوء عدد لا يُحصى من الوكالات الحكومية التشريعية والضرائب الجديدة، تظهر عدم جدواها إطلاقاً في تجريد المتمولين من النفوذ المالي وإخضاعهم للإرادة الشعبية، فنعمل على تدبير موجة جديدة من الإصلاحات التي تنطلق في فترة محسوبة، لكن مع نفس النتيجة المحبطة. فندبّر موجة إصلاحية أخرى...وهكذا إلى لا نهاية.

إن طيف اليمين/اليسار الذي ابتكرناه، والذي تساعد المناهج التعليمية الإجبارية على تكريسه عالمياً، يمثّل عنصر أساسي جداً في ضمان عدم خروج هذه المسرحية العالمية عن سيطرتنا. أما المتفائلين (نسميهم المغفلين) الذين في الوسط، فهم ليسوا خطرين ولكنهم ليسوا مفيدين أيضاً في هذه اللعبة. ما نحتاجه هو إيجاد جناح يميني محافظ ومتصلّب، لكنه طبعاً متخاذل، ذلك من أجل إضعاف الإصلاحات الليبرالية الجارية إذا تجاوزت حدها. فالمحافظون يميلون دائماً إلى مقاومة التقدم الجاري لمركزة سلطة الحكومة، والتي ندفع الليبراليين إلى رؤيتها على أنها ضرورية لإنهاء النفوذ غير الديمقراطي للمال في المجتمع. يفضّل التيار المحافظ الأخذ بفكرة التعددية في المصالح المتنافسة حيث يمثّل المال وسيط هذه المنافسة، بدلاً من المخاطرة في القبول بنفوذ حكومة مركزية كبيرة. عندما تظهر إصلاحات التيار الليبرالي إشارات تدلّ على أنها تتجاوز حدود نوايانا بحيث أصبحت تمثّل تهديداً فعلياً في وضع مؤسساتنا الأساسية في أيدي الشعب، حينها نعتمد دائماً على المحافظين الذين يهبّون لحماية قوتنا (طبعاً دون إدراك منهم) حيث يظنون بأنهم يدافعون عن الحقوق الشرعية لرأسمالية "السوق والمنافسة الحرة". ومن الناحية الأخرى، في مناسبات نادرة، عندما ينادي المحافظون لإخضاع السوق، بما فيه أعمالنا، لسياسة عدم التدخّل الحكومي في الشؤون الاقتصادية والاجتماعية، حينها نعتمد على المصلحون الليبراليون، الذين يمثلون الأغلبية بشكل عام، حيث يصرّون على المزيد من التدخّل الحكومي، مع جهلهم بأن هذه تمثّل رغبتنا أيضاً.

لدى اليمينيين خوفاً كامناً من حلم اليساريين المتمثّل الجماعية الديمقراطية، واليساريون يكرهون ما يبديه النخبة اليمينيون من فردانية جامدة، وبالتالي ليس هناك أي خطر في جمع قواهما وقلب احتكاراتنا المدعومة حكومياً رغم أننا ننتهك مثاليات كلا الجهتين باستمرار.

إن مركزية التحكّم على المستوى المحلي أو حتى الوطني يساعد في بناء أجواء الآراء التي نتطلبها في التعليم العام. وإذا فشلت هذه الوسيلة في إلغاء الحكم المحلي، فهناك وسائل أخرى نلجأ إليها وتكون أكثر تأثيراً. يستطيع نفوذنا المالي الكبير في مجال الطباعة والنشر أن يحدد مجموعة مُختارة من الكتب المدرسية الموحّدة. يمكن زيادة هيمنتنا في مجال التعليم من خلال إيجاد معاهد وكليات تربية وتعليم تخرّج معلمين ومدرّسين مناسبين لآلتنا التعليمية. كما أن اتحادات وجمعيات المعلمين تمثّل قواعد قوة ممتازة لتعزيز المنهج التعليمي المحدد الذي نغرسه في عقول الأجيال.

بواسطة نفوذنا الهائل في مجال الطباعة والنشر والإعلان، نستطيع أن نعمّم شعبياً أي شخصية نختارها من بين المنظّرين التعليميين، والذي تكون وجهة نظره مفيدة ومتوافقة مع أهدافنا، أو على الأقل ليست مناقضة لها. بهذه الطريقة نحصل على ناشطين متحمسين وأوفياء، يساهمون في ترويج رغباتنا دون حاجة لكشف دوافعنا أو حتى وجودنا أصلاً. نحن لا نريد نظام تعليمي ينتج أفراد نشطين وطموحين، مصممين على جمع ثروات هائلة ونفوذ كبير. لذلك، نعمل على إحباط الأنظمة التعليمية التي تطوّر القوة الكامنة في التلاميذ لأقصى الحدود. التعليم "الليبرالي" الذي يركّز على العلم فقط من أجل العلم، والمتبعة للمناهج السفسطائية العقيمة لا تمثّل أي خطر علينا. وكذلك التعليم "المهني"، لا يمثّل أي خطر أيضاً لقوتنا. التعليم الذي يحضّر التلاميذ لتقبّل فكرة كونهم قطع صغيرة لآلتنا العسكرية/الصناعية/الاجتماعية بشكلها الحالي هو الأنسب بالنسبة لنا، لهذا السبب ندعمه بكافة الوسائل الممكنة. التعليم التدريجي (نظام الصفوف التراتبية) مع تشديده على "التكييف الاجتماعي" يولّد الانضباط والامتثال الذي نتطلبه منهم عندما يخدمونا بعد تخرّجهم. التشديد على تشجيع الرياضة التنافسية ينتج حالة معيّنة من المنافسة المشوّشة بين المشاركين، لكن لها تأثير كبير في خلق جماهير من المشجّعين المتحمسين والذين يمضون ساعات طويلة أما أجهزة التلفاز يتابعون خلالها المباريات الرياضية. وهناك نوع جديد من المباريات، وهي الحوارات السياسية التي تمثّل مشاجرات سخيفة بين خصمين سياسيين، وقد أظهرت تأثيراً كبيراً في إلهاء الجماهير وتشويش تفكيرهم.

إن كل من يُنشِد التغيير الاجتماعي سوف ينجذب إلى مجال التعليم. وإستراتيجيتنا هي بسيطة: دع فقط الذين يكون تأثيرهم متوافق مع قوتنا ينجحون. شجّع فقط الذين يطوّرون ميل حيادي أو متلقي لما يجري حولهم في الحياة. أثبط من عزيمة الذين يعزّزون الكوامن الفاعلة أو العدوانية. صمّم طقوس دراسية طويلة المدى بحيث تبدو غير منتهية، واجعلها تمثّل الدرب الديمقراطية الوحيدة نحو النجاح. واسخر من الطريقة التي تقدم بها الأشخاص الناجحون في الحياة بغير طريقة التعليم، واعتبرهم شخصيات فردانية، وعرة، وقديمة الطراز.

قبل أن أترك المجال للبروفيسور X، والذي سيناقش دور المجتمعات السرّية والنوادي العالمية النافذة، أودّ التعليق على نهاية التعليم الديني كوسيلة فعالة للسيطرة الاجتماعية. كان الدين في أيامه المزدهرة يُعتبر سلاحاً مدهشاً لترسيخ الانصياع الكامل والرضوخ المطلق بين الرعايا، وبالإضافة إلى التفاني (الغيرية) والتضحية بالذات لصالح السلطة. وفي الحقيقة، نحن لم نستسلم هذا السلاح بشكل طوعي، حيث كان جدّك من بين الداعمين الأساسيين لبقاء واستمرارية السيطرة الدينية، لكن معظم الرأسماليين النافذين الآخرين أصرّوا على التحوّل إلى الأيديولوجيات الدنيوية بحجة زيادة انتشار الأفكار العلمانية التي تمهّد بدورها الطريق لانتشار الفكر الاستهلاكي حول العالم، والذي يتوافق مع الأهداف الأساسية التي قامت من أجلها ثورتنا الصناعية الكبرى. لكن مع ذلك، فإن الميل نحو العقلانية في الشؤون البشرية يمثّل عقبة عنيدة يصعب على قوتنا ونفوذنا التعامل معها بسهولة. فقط في الدكتاتوريات التوتاليتارية التي أنشأناها يمكن سحق هذا الميل العقلاني بالكامل بين الجماهير. بينما في المجتمعات شبه المنفتحة التي تتمركز فيها قواعدنا المالية الرئيسية (الدول الغربية)، لا يمكن التعامل مع القوى العقلانية سوى من خلال التحريف والموارية والمناورات. ينظّر البعض بأنه، في النهاية، لابد للانتشار الواسع للأنانية العقلانية rational egoism أن يؤدي إلى قلب نظامنا الرأسمالي وإنهائه. لكنني واثق كل الثقة بأن العقائد الدنيوية المخلوطة ببعض من البلبلة والإرباك يجسّدان حالة معيّنة كافية لأن تحافظ على استمرارية قوتنا ونفوذنا لقرون عديدة مقبلة.



البروفيسور X
حول دور المحافل السرّية والنوادي النافذة
ON PRESTIGIOUS ASSOCIATIONS AND SECRET SOCIETIES

".. لقد استُخدمت كافة وسائل الإخضاع والإجبار والإكراه لجعل الأدباء والكُتاب يصبحون آمنين (غير خطرين)، مهذبين، ومطيعين، وعقيمين. واحتجاجاً على هذا الوضع، قمت بمقاطعة انتخابات المعهد الوطني للفنون والأدب منذ بضعة سنوات، لكنني الآن أصبحت مُجبراً بالإكراه على مقاطعة جائزة بوليتزر Pulitzer .."
أوبتون سينكلار Upton Sinclair
كاتب ومصلح اجتماعي أمريكي

".. ليس من المجدي إنكار، لأنه يستحيل إخفاء، حقيقة أن جزء كبير من أوروبا ـ كامل إيطاليا وفرنسا، وقسم كبير من ألمانيا، هذا ولم نتكلّم عن البلدان الأخرى ـ تغطيها شبكة من المجتمعات السرّية، كما شبكات السكك الحديدية التي تغطي وجه الأرض الآن.."
بينجامين ديزريلي Benjamin Disraeli
رئيس وزراء بريطاني سابق، 1856م

من خلال حماية والمحافظة على استمرارية الإمساك بالأمم والأوطان المختلفة، وجب علينا التشديد من وطأة السيطرة الخفية لكافة الجمعيات السرية المسؤولة عن صانعة القرارات، وخاصةً النوادي النافذة التي تجذب إليها القادة والزعماء في كافة المجالات والذين لديهم نفوذ في توزيع المناصب العُليا في الحكومات ومجال الأعمال. إن كافة الجمعيات والنوادي التي تنتمي إليها شخصيات بارزة مثل: فقهاء، رجال أعمال، كتاب، دينيين، فنانين، بيروقراطيين، صحفيين، أيديولوجيين، ناشرين، مذيعين، وهناك رجال محترفون وبالإضافة إلى مجموعات مصالح خاصة تمثّل: العمال، الفلاحين، المستهلكين، أقليات عرقية أو دينية، .. وهكذا.. جميعهم يخضعون، بطريقة خفية، تحت سيطرتنا المباشرة من خلال سيطرتنا على الجمعيات والنوادي التي ينتمون إليها. طالما أن رسوم اشتراك المنتسبين لا تكفي لدعم النشاطات الطموحة لهذه المنظمات ذات الطابع الاجتماعي التطوعي، فهذا بالتالي يجعلها فريسة سهلة لمصادر الدعم المالي غير المحدود الذي يغدقه عليهم أتباعنا الماليين بسخاء. لكن رغم ذلك، وجب أن لا تُُكشف في هذه العملية دوافعنا الحقيقية الهادفة لتعزيز نفوذنا السياسي والاقتصادي. وجب على سياساتنا أن تكون عقلانية بقدر الإمكان، حيث تتوافق مع الأيديولوجيات والأخلاقيات السائدة بين تلك المجموعات، وطبعاً لا ننسى مراعاة مصالحهم المادية أيضاً لكسب ولاءهم. فزعماء تلك المجموعات يتقبلون حججنا العقلانية بسرعة عندما نغدق عليهم دعماً مادياً بحجة دعم مسعاهم النبيل. نحن لا ننخرط في عملية رشوة مباشرة، إلا إذا كانت تمثّل ملاذاً أخيراً، أي في حالات نادراً جداً. إن أفضل طريقة لخدمة مصالحنا بعيدة المدى تتمثّل بتأجيل مؤقّت لانتصار سياسي معيّن بدلاً من المخاطرة بكشف قوتنا الحقيقية عبر محاولات الرشوة الواضحة والصريحة. وفي الحقيقة، فإن عمليات الرشوة الحمقاء وكذلك محاولات الترهيب الصريح هي من مظاهر بعض أخصامنا الأغبياء الذين ارتفعوا حديثاً إلى مناصب عالمية نافذة.

وكمثال على أسلوبنا غير المباشر: إذا قررنا بأنه وجب منح التراخيص والامتيازات للشركات من قبل سلطة فدرالية بدلاً من سلطة ولاية محلية، لا نأمر السياسيين وصانعي القرار التابعين لنا بأن يدعموا رغبتنا بشكل مباشر. فهذا سوف يزرع شكوكاً كبيرة لدى الشركات (غير المسيطرة) بأن شيئاً ما يحصل، وبالتالي لا بد في النهاية من اكتشاف مخططنا. بدلاً من ذلك، سوف تكون إستراتيجيتنا على الشكل التالي:

1ـ نضحّي بإحدى فرق إداراتنا الأقل كفؤاً من خلال خلق فضيحة مالية كبرى، تركّز عليها أجهزة الإعلام بشكل كثيف، مما يوحي للجميع بأن يصبوا اهتمامهم على مشاكل الفساد المستشري والخطير بين الشركات القائمة في البلاد، والذي المسؤول عن انتشارها هو القوانين والتشريعات الرخوة وغير المنضبطة.

2ـ من خلال عملائنا الممولين جيداً، نسلّط الأضواء الكثيفة على مفكرين أو مجموعات سياسية تدعم فكرة الترخيص الفدرالي كخطوة أولى نحو الاشتراكية. (من خلال التصميم والتوزيع العبقري للتوجهات الاجتماعية والسياسية المختلفة في البلاد، نستطيع إيجاد داعمين متحمسين لأي إجراء نرغب باتخاذه، مهما كانت طبيعته أو توجهه السياسي أو الإداري أو الاجتماعي)

3ـ بعد أن طُرحت المسألة أمام الرأي العام، نقدّم عرضاً يتمثّل بدعم مالي سخي، عبر مؤسساتنا المعنية، لإجراء دراسات واسعة وشاملة حول الاقتراحات المتناولة لموضوع الترخيص الفدرالي مقابل التشريع المحلي، مع ميل واضح وصريح إلى استحسان فكرة الترخيص الفدرالي. وطبعاً، سوف تتبنى جمعيات كثيرة مهمة القيام بهذه الدراسات (طمعاً بالتمويل السخي الذي تقدمه مؤسساتنا). وبنفس الوقت، نقوم بدعم وتمويل دراسات معارضة لهذا التوجّه، لكن هذا الدعم لا يذهب إلى جهات محترفة وعقلانية ومنصفة، بل إلى جمعيات فوضوية غير متزنة (وحتى منحطّة)، وبذلك نكون قد منعنا تشكّل أي قاعدة صلبة للمعارضة العقلانية الفعلية، حيث ستصبح ضعيفة جداً أمام شركائها من المعارضين المنحطّين الذين قوي سلطانهم ونفوذهم بفعل أموالنا السخيّة التي أغدقناها عليهم.

4ـ عندما تتجسّد قاعدة متنامية من الدعم، بفعل الإجراءات المذكورة السابقاً، نزوّد المنظمات الضاغطة (اللوبيات) بأموال طائلة لرشوة السياسيين. فيصدر أخيراً تشريع حكومي يأخذ بالترخيص الفدرالي بحجة أنه يمثّل المصلحة العامة. هذا الإجراء يجعل المعارضين المحبطين الرافضين لهذا القانون الجديد، يظهرون بصورة انفعالية، معوّقة، هستيرية، وغيرها من صفات وتصرفات سيئة تخدم في ضرب مصداقيتهم وسمعتهم.

بعد أن يتخذ نظامنا الرأسمالي العالمي شكله النهائي، حيث التحكم المطلق بالعقول وكذلك السيطرة الكاملة على التوجّه العام للبشرية، سوف تُتوّج المنظومة الهرمية التراتبية للمجتمعات السرّية العالمية بمنظمة واحدة تتربع على القمة. "مجلس الشؤون العالمية" The Council of World Affairs. لكن هذه المنظّمة أيضاً هي عبارة عن واجهة للجمعية السرية التي يرأسها والدك. هذه الجمعية السرية تتألف من الأشخاص الذين تكلموا للتو، وبالإضافة إلى ستة أعضاء آخرين غير حاضرين الآن. أنت الآن ستأخذ مكان الروفيسور Q الذي سيتقاعد قريباً. وفي النهاية سوف تحل مكان والدك. نحن الأعضاء الـ13 نمثّل المستشارين المؤتمنين الوحيدين لوالدك. أما باقي أفراد وعملاء المنظمة، فهم مُظللين بحيث يجهلون الأهداف والدوافع الحقيقية لها. معرفتهم محدودة لتناسب التفاصيل المتعلقة بالمهمات الموكلة إليهم فقط. أما عقوبة الخيانة فهي الموت.

يمثّل هذا المجلس أداة أساسية لترويج قراراتنا السياسية عبر شبكتنا الكبرى من الأتباع والتوابع دون حاجة للكشف عن دوافعنا وإستراتيجيتنا الحقيقية. السياسة التي نقرّها في أحد اجتماعات هذا المجلس، المؤلف من عدة أشخاص، تُسوّق لحاشيتنا وأتباعنا، ومن ثم تنتشر إلى الملايين على شكل أفكار عقلانية تخفي دوافعنا الحقيقية. تكمن القوة الخفية الحقيقية لمجلسنا السرّي في الطريقة السلسة واللطيفة التي نسوّق عبرها سياسات التحكّم والسيطرة، دون حاجة لممارسة القوة والشدّة التي يبديها المهيمنون المباشرون المتعطشون للسلطة. هذا المجلس يقبع في قلب شبكة المنظمات السرّية العالمية، ونحن نحتلّ قلب هذا المجلس.

في بدايات تشكيل هذا المجلس، عملنا جاهدين لجذب الشخصيات الأكثر الكفاءة ونجاحاً في كافة المجالات، مستخدمين كل النفوذ الذي يمكن لأموالنا شراءه. لقد بذلنا جهود كبيرة في إقناع أعضاء المجالس المستقلة والمتشكلة ذاتياً، بأن يسيروا بتوافق وانسجام مع أهداف سياساتنا. لقد واجهنا الكثير من الفشل. لكن الآن، كل شيء تغيّر. لم تعُد تُعتبر العضوية في منظمتنا مكافأة للنجاح أكثر من كونها شرط أساسي للنجاح العظيم. من دون عضوية في منظمتنا، فقط الشخصيات المرموقة واللامعة تستطيع البروز على المستوى الوطني أو العالمي. أما من خلال العضوية في منظمتنا، يمكن حتى لشخصيات ذوات جودة متوسطة، والميول المناسبة طبعاً، أن يلمعوا ويبرزوا.

وفي الحقيقة، فإن المتوسطين (الجودة المتوسطة) هم أكثر ميلاً وتأقلماً مع ترويج سياساتنا وأقل قابلية لأن يكشفوا ويعارضوا دوافعنا الكامنة وراء تلك السياسات. إن المتوسّط المتعطّش للسلطة لا يرى صالحاً في الحكم على أولياء نعمته أو التساؤل عن طبيعة وبنية القوة التي جلبت له النجاح الباهر الذي يعرف في قرارة نفسه بأنه لا يستحقه. أما بخصوص الأشخاص ذوات الجودة الرفيعة، فإن عزّة النفس التي يتحلى بها هؤلاء المثاليون المنصفون الذين يكرّسون أنفسهم لخدمة البشرية بصدق وإخلاص، تمنعهم من التورّط في هذا النوع من التواطؤ، كما أنهم يثورون ضدّ هذا الوضع مجرّد أن شعروا به. لهذا السبب لا نجرؤ في المخاطرة بالتعامل مع هكذا نوعية من الأشخاص.

أصبح المجلس الآن وكالة عملاقة لتوظيف المخلصين الحاضرين دائماً لتسويق أفكارنا كالببغاوات (جمع ببغاء) في كافة المواقع والمناصب الرفيعة، إن كانت في الحكومات، أو المؤسسات والجمعيات، أو الإذاعات المرئية والمسموعة، أو في مجال الصناعة، أو المصرفية، أو الصحافة، أو الطباعة والنشر. رغم أننا نشجّع أعضاء المجلس على اتخاذ مواقع متناقضة في كافة الجهات المتصارعة والمتخاصمة، والمشاركة بكل ما عندهم في الشجارات والجدالات القائمة بين الأطراف، والتي نصنعها من أجل تسلية وضعضعة الجماهير، إلا أن هؤلاء الأعضاء المزروعين في طرفي النزاع يتوحدون بشكل لا يوصف عندما تتعلق المسألة بالدفاع عن منظمتنا، وبنية قوتنا ونفوذنا. الكثير منهم يعتبرون أنفسهم مدافعون صالحون عن مصلحة الجماهير، لكنهم بنفس الوقت، مستعدون لتكذيب أي إشاعة أو رواية تفضح حقيقة قوتنا الخفية القابعة وراء الستار، فيستبعدون الفكرة من خلال اعتبارها إحدى نظريات المؤامرة السخيفة التي لا يأخذ بها سوى المهووسين المجانين.

في هذا العصر الذي تسوده السيطرة الرأسمالية ومنظومتها المصرفية المعقّدة، لم يعد للمجتمعات السرية (قديمة الطراز) أي دور رئيسي لتلعبه. معظم تلك المنظمات السرّية انحدرت إلى مستوى نوادي اجتماعية يلتقي فيها الرجال مرة كل شهر هرباً من الزوجة والأولاد. لكن من الواجب الاعتراف بأن لهذه المنظمات السرية تاريخ مجيد وحافل، حيث كانت تمثّل السلاح الرئيسي بيد أسلافنا البرجوازيين خلال سيطرتهم أو تآمرهم على الملوك والأمراء. في وسط الأجواء الدموية الاستبدادية التي سادت تلك العصور المظلمة، وخوفاً من اكتشاف أمر هذه الجمعيات السرية، كان يُتخذ إجراءات احترازية كثيرة مثل: التعهّدات (قسم اليمين)، المناصرة، الخداع، المكافأة.. وغيرها من أساليب تُستخدم للمحافظة على إخلاص الأعضاء وسرّية المنظمة. وفي الحقيقة، كل هذه العوامل ساهمت في تحويل الجمعيات السرية إلى مصدر قوة هائلة لصناعة الثورات والانقلابات العظيمة عبر التاريخ. أما الطريقة التنظيمية المعقّدة لهذه الجمعيات السرية، مثل تقسيمها إلى درجات تراتبية يحتلها الأعضاء، والطقوس الاحتفالية للمنتسبين الجدد، والأهداف الإنسانية المخادعة التي تنطلي على الأعضاء في المستوى الأدنى، جميعها ساهمت في حجب وإخفاء الأهداف الحقيقية لهذه الجمعيات، والتي لا يعرفها سوى قياداتها الخفية... الأسياد المحجوبين. وجب الاعتراف بحقيقة أن الدور الحاسم الذي لعبته المحافل الماسونية المتنوّرة في الثورات الأوروبية خلال القرون الماضية كان له فضل كبير في انتصارنا على النظام العالمي القديم (الإقطاع)، وإفساح المجال لنشوء منظومتنا الرأسمالية الحالية.

سوف أترك الآن الساحة للبروفيسور الذي سيتحدث عن المجتمعات السرّية الحقيقية للدولة الرأسمالية العصرية: مؤسسات الأمن الوطني، ووكالات المخابرات.




البروفيسورY
حول الاستخبارات والعمليات الأمنية السرّية
ON COVERT OPERATIONS AND INTELLIGENCE

في منظوماتنا الحكومية الرأسمالية المكتملة النمو والتطوّر وجدنا أن السيطرة المطلقة على المؤسسات الأمنية والعمليات الاستخباراتية السرية عاملاً حيوياً بالنسبة لنا.

إلى جانب كونها تمثّل أداة ثمينة ومهمة خلال صراعنا مع العائلات المنافسة، تُعتبر السيطرة على هذه المؤسسات جزءاً مكمّلاً وضرورياً لعملياتنا اليومية. المجتمعات الاستخباراتية الكُبرى تمثّل أمراً محتوماً، خاصة بما يتعلق بالحكومات المختلفة التي فرضناها على العالم خلال صعودنا إلى السلطة المطلقة. سوف يكون عمر سلطتنا قصيراً بالفعل إذا وقعت إدارة هذا الجهاز الاستخباراتي الحديدي، متعدد الوكالات ومطلق الولاء، في أيدي السياسيين العاديين وخاصة أولئك الذين خارج نطاق سيطرتنا.

نحن لا نسمح لهذه الوكالات الاستخباراتية أن تلاحق أهداف تتعلّق بـ"المصلحة الوطنية" كما خُدعت الجماهير باعتقاده. لا يمكن السماح للسياسيين أن يحرّفوا توجّه نفوذ وتأثير مجتمعنا الاستخباراتي عن خطنا الأساسي الخفي، الذي يلبي متطلبات قوتنا المالية، إلى صراعات سياسية صغيرة ليس لها جدوى أو أهمية بالنسبة لنا.

لا يُسمح أبداً للطموحات الوطنية للشعوب والأعراق ولا الرؤى الأيديولوجية للمفكرين المهتمين بقضايا إنسانية لأن توجّه مسار العمليات الاستخباراتية السرّية ولا تحريف السياسات الأمنية الرئيسية التي حددناها بأنفسنا. والطريقة التي اتُبعت لعقلنة وتبرير هذه السياسة الخفية، إن كان أمام عناصر الأمن والاستخبارات ذاتهم، أو أمام العامة، وجب عليها أن تكون مُقنّعة ومرنة بشكل ذكي وعالي الحنكة. لكن مهما كانت الأحوال، فإن الهدف الأساسي للمجتمع الاستخباراتي هو دفع وتسويق مجموعة من السياسات، دون استثناء، والمؤدية أخيراً إلى تحقيق أهدافنا النهائية التي وضعناها للإنسانية.

ليس هناك أزمة أكثر تهديداً وخطراً على قوتنا المالية من محاولة أحد الرؤساء أو رؤساء الحكومات للسيطرة شخصياً على المجتمع الاستخباراتي وإدارة عملياته الأمنية السرّية، أو تجاوز سلطة هذه الوكالات الأمنية من خلال إنشاء وكالات أمنية موازية. وجب التعامل مع هكذا تعديات سافرة فوراً وبشكل حاسم. رغم أن اختلاق فضيحة تساهم في خلع هذا الزعيم السياسي الوقح من منصبه يمثّل خط دفاع أوّل، لكننا لا نتردد أبداً في اللجوء إلى الاغتيال عندما يتطلب الأمر ذلك، مهما كان حجم الوقع الذي يحدثه هذا الاغتيال.

إذا أردت تكوين صورة شاملة ودقيقة للهدف المبدئي لوجود هذا المجتمع الاستخباراتي هو تصوّره على أنه "مجتمع سرّي (ماسوني) مُؤمّم وطنياً" nationalized secret society. كان أسلافنا، وخلال صراعهم ضدّ النظام القديم المتمثّل بالملوك والأمراء، مضطرّون إلى تمويل "المجتمعات السرّية" مثل الماسونية Masons، والإلوميناتي Illuminati، وغيرها.. من جيوبهم الخاصة.

عبر صرف الأموال الباهضة، وكذلك المخاطرة الكبيرة، تمكنت هذه المجتمعات السرّية من التسلل إلى المؤسسات الحكومية العامة وكذلك الخاصة التابعة للدول التي استهدفها أسلافنا العُظماء للسيطرة عليها بفعل قوة المال. لكن هكذا اختراقات وانقلابات داخلية تتطلّب صرف الكثير من الأموال كما أنها تستهلك الوقت الطويل. لا يمكن اعتبار هذه السيطرة كاملة عملياً سوى عندما تكون الترقيات والزيادات في الرواتب والتقدم في المناصب مستندة، ليس على جودة الشخصية والقيم الوطنية ومدى الاجتهاد في خدمة الدولة، بل القرار يكون في أيدي المجموعات المتسللة وبالتوافق مع أهدافها وغاياتها المبيّتة.

أما الآن، فتصوّر كم هو الأمر سهل بالنسبة لنا، نحن الوريثون الوحيدون للأعمال العظيمة لأسلافنا الكبار، والمسيطرون اليوم على منظومة رأسمالية حكومية شاملة وكاملة التطوّر! كل الأعمال السرّية التي نأمر بها لتلبية غاياتنا الخاصة لا تستنزف من جيوبنا فلساً واحداً! حيث تتحمّل أعباءه خزينة الدولة تحت شعار "المحافظة على الأمن القومي"! وبالاعتماد على العمليات الاستخباراتية العاملة تحت هذا الشعار الوطني الكبير، وكذلك الأموال المُخصصة من خزينة الدولة، استطعنا تمويل وإنشاء شبكة واسعة وغير محدودة من المجتمعات السرّية المتنوعة والمتداخلة حول العالم.. وحجم هذه الشبكة يتجاوز بأشواط عديدة حدود مخيلة أسلافنا الأوائل مهما كانت جامحة وبعيدة المدى. بالإضافة إلى الدعم المالي والمعنوي الذي تستمده المؤسسات الأمنية من الشعب والحكومة، هناك أمراً مهماً نستثمره لصالحنا، وهو أن كل العمليات الاستخباراتية، والتي صُممت أصلاً لتجسيد غاياتنا ومآربنا، هي مدعومة بالقانون ويقرّها الجهاز التشريعي في البلاد!

لم تعُد عملية المحافظة على الانضباط والإخلاص والسرّية بين المنتسبين، كما كانت أيام المحافل السرّية (الماسونية)، مسألة تعتمد على التخويف والابتزاز والمناصرة والتبشير برسالة ماورائية (سماوية) كاذبة. رغم أن هذه الوسائل تبقى أدوات مهمة ومجدية، خاصة في الحالات الطارئة، إلا أن الأمر تغيّر الآن، حيث أن الانضباط والالتزام والولاء بين العناصر الأمنية يتم ترسيخه من خلال بعث الروح الوطنية في نفوسهم، بالإضافة إلى ترهيبهم من خطر الملاحقة القانونية عبر التلويح بتهمة "خيانة الوطن" أو "انتهاك الأمن القومي" لكل من عصى الأوامر أو تقاعس عن تنفيذ المهمة الموكلة إليه.

رغم الحجم المهول الذي بات عليه مجتمعنا الاستخباراتي، فلا زلنا نعمل على نحو كامل وفق منهج الهيمنة الرأسمالية والقوة التمويلية. وكما الرأسمالي العقلاني يمتنع عن امتلاك نسبة كبيرة من الأسهم في إحدى الشركات التجارية، أي أكثر من ما يتطلبه الأمر للسيطرة على الشركة، فكذلك الحال مع المؤسسات الأمنية، حيث نسيطر على المناصب الأساسية التي تضمن لنا السيطرة على الوكالات الاستخباراتية المختلفة. وفي النهاية، لماذا وجع الرأس في التفاصيل الإدارية والبيروقراطية التافهة في الوقت الذي يوجد من يشغل نفسه بها. تذكّر أن هدفنا في النهاية هو السيطرة الأمنية على المنظمات المهمة والحيوية وبالإضافة إلى تكريس حالات وأوضاع مناسبة لنا، وليس المحافظة على أمن المواطنين حيث نترك تلك المهمة ليتخبط بها الآخرون.

النموذج التنظيمي المعقّد المتمثل بـ"حلقات داخل حلقات داخل حلقات"، وهذه الخاصية تمتعت بها المجتمعات السرية أيضاً، تم تطبيقه على المجتمع الاستخباراتي لكن بعد تعديله وتطويره بشكل مذهل. حيث أن "اليد الأولى تجهل ما تفعله اليد الأخرى" يُعتبر المبدأ الجوهري للنجاح في عملياتنا السرّية. في معظم الحالات، لا نسمح منفذو العمليات أنفسهم بمعرفة الأهداف النهائية لمهماتهم، وإذا كان ممكناً، حتى الأهداف قصيرة المدى تبقى مجهولة.

إنهم ينفذون مهمات "مُـقنّعة" تخفي أهدافنا الحقيقية ليس فقط من العامة والمجموعات المستهدفة، بل أيضاً من العملاء أنفسهم. فمثلاً، الكثير من العملاء الذين يعملون تحت "غطاء يساري" يقودوهم إلى الاعتقاد بأن الوكالة الاستخبارية المسؤولة عنهم، أو حتى القِسم الذي ينتمون إليه، يخضع سرياً، أو يُحرّك بصِدق من قبل أيديولوجيا اشتراكية. وبالتالي، يفترضون بأن الهدف النهائي لوكالته الاستخبارية يتمثّل بإرشاد المجموعات اليسارية نحو توجّهات إيجابية مُنتجة، رغم أنهم يعجزون عن رؤية توافق مهمتهم السرّية مع هذا الهدف المُفترض.

أما العُملاء الآخرين الذين يعملون تحت "غطاء يساري"، لكنهم متعاطفون مع جناح اليمين، فيتم تشجيعهم على الاعتقاد بأن الوكالة المسؤولة عنهم تقوم ببساطة بمراقبة ومتابعة تلك المجموعات المخرّبة الميالة للعنف بهدف حماية العامة منهم. عندما يُطلب من هكذا عملاء أن يشاركوا في، أو حتى يقودوا نشاطات راديكالية، سوف يعتقدون بأن الهدف النهائي هو اختراق وتدمير المنظمة لمصلحة الوطن. وهذه تُعتبر من الحالات النادرة، حيث لا نضيّع وقتنا وأموالنا لحماية العامة أو الدفاع عن الوطن.

أما العملاء الذين يعملون تحت "غطاء يميني" فنعاملهم بنفس الطريقة لكن بالعكس. فالعملاء الميالون للجناح اليميني يُقادون للاعتقاد بأن الوكالة المسؤولة عنهم تنتمي لليمين. ويُطلب من العملاء الميالون لجناح اليسار لأن يعملوا تحت "غطاء يميني" لكي يراقبوا المنظمات اليمينية الخطرة. معظم عملاء الاستخبارات يبقون جاهلون تماماً للصورة الكبرى والتي هي واضحة فقط بالنسبة لنا بفضل الزاوية العُليا التي ننظر منها. القليلون فقط لديهم المعلومات الكافية أو التقارير الكافية لاستنتاج كيف تساهم عملياتهم الجزئية، وأحياناً المعقدة جداً، في تعزيز الحاجات التشريعية والقانونية والعملياتية والتسويقية التي تتطلبها استمرارية قوتنا المالية. معظمهم لا يحاول، أو يتجرّأ على فعل ذلك. إنهم يتقاضون الكثير من الأموال بحيث لا يخاطرون في التفكير بأمور لا تخصّهم.

أما العملاء الذين يعملون تحت غطاء "عضو عصابة"، فهم نوعين. أولاً، هناك عضو العصابة الحقيقي الذي يتعامل مع الوكالة الأمنية ويتقاضى راتبه منها. يقودونه إلى الاعتقاد بأن "الأب الروحي" لعصابته هو الذي يتحكّم بالوكالة لغاياته الخاصة. وفي الحقيقة، فإن الأمر بالعكس تماماً. الوكالة هي التي تسيطر على رئيس العصابة لغايات أخرى لا أحد يفهمها سوانا. ثانياً، هناك محارب الجريمة الحقيقي الذي يقودونه للاعتقاد بأن الوكالة تهدف إلى اختراق ومراقبة العصابات كخطوة أولى لتدمير الجريمة المنظّمة. لكن في الحقيقة، فإن هكذا عملاء شرفاء يجهلون بأنهم يقترفون الكثير من الجرائم الجانبية خلال مسيرتهم المتحمّسة لتخليص بلدهم من الجريمة المنظّمة!

من أجل استيعاب كيف نعمل في هذا المجال المربح جداً، دعنا ننظر باختصار إلى ميكانيكية تهريب المخدرات. يُؤمر ضباط الشرطة والجمارك بأن يتركوا بعض عناصر العصابات في سبيلهم، حتى لو كانوا يشحنون حمولات مشكوك بأمرها. سوف تبدو هذه العملية صالحة تماماً حيث معروف مسبقاً أن الشرطة السرّية التي تخترق عصابات الجريمة المنظمة لا بد من أن تشارك في الجريمة عبر تهريب المخدرات من أجل كسب ثقة العصابة. وبالتالي الكثير من عمليات التهريب تمرّ تحت أنوف الجمارك والشرطة دون أي تذمّر أو شكوى لأنهم يأخذون السيناريو السابق في الحسبان. لماذا يريد ضابط جمارك أن يخرّب عملية استخباراتية موضوعة بحنكة وإتقان للإيقاع بإحدى العصابات المهرّبة للمخدرات؟

هناك الكثير من عمليات التهريب التي يشارك فيها أفراد الجمارك والشرطة ظناً منهم بأنها خطّة مبيّنة للإيقاع بإحدى كُبرى عصابات الجريمة المنظّمة. لكن لو استطاع العميل الأمني أن يرى الصورة الكبرى كما نراها نحن، فسوف يكتشف بأن كل المخدرات المُهرّبة إلى أسواق البلد هي بمشاركة فعلية من عملاء فدراليين وعناصر الشرطة السرّية!

الإستراتيجية التي تعمل وفقها الجريمة المنظّمة التي نديرها في البلاد هي كما يلي: من جهة أولى نعمل على تمرير قوانين تحرص على أن تُعتبر مجالات "التسلية" المفضّلة لدى الكائن البشري هي مجالات غير قانونية. ومن جهة ثانية، ندير السوق السوداء التي توفّر هذه المجالات غير القانونية ونحصد الأرباح الخيالية، وكل ذلك مع حصانة مطلقة من الملاحقة القانونية. أما المنع القانوني لشرب الكحول الذي ساد في العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي في أمريكا، فكان مجرّد تجربة اختبارية ناجحة لإطلاق هذه الإستراتيجية.

هناك منهج جديد ومتنامي في مجتمعنا الاستخباراتي، ويتمثّل بالعملاء الخاضعين للسيطرة السايكولوجية أو الأدوية التخديرية. ويُشار إلى هؤلاء اصطلاحياً بـ"العملاء المُعدلون سلوكياً" behavior modified agents، أو باللغة العامية التي نستخدمها نحن، نسميهم "زومبي"zombies. من خلال استخدام مخدرات منومة مغناطيسياً hypnotic drugs، وتقنية غسيل الأدمغة brain washing، والتجريد الحسّي sensory deprivation، وغيرها من تقنيات "تعديل للسلوك" behavior modification techniques، يمكننا تكوين وصناعة شخصيات وهمية من لاشيء داخل عقل "الزومبي". كما يمكننا تحديد المواصفات التفصيلية للشخصية المُصطنعة المُصممة خصيصاً لتناسب المهمة المنشودة، كل ذلك بواسطة برنامج كمبيوتر. إن هكذا شخصيات (ملعوب بعقولها) تصبح عصبية وغير مستقرّة نفسياً أو عقلياً، ذلك بفعل الارتدادات العكسية التي تسببها تقنياتنا السيكولوجية التي لم يكتمل تطورها النهائي بعد، لكنها على أي حال تبقى مفيدة لغايات كثيرة.

طبعاً، إن الفضيلة الوحيدة لعناصر "الزومبي" تتمثّل بكلمة واحدة: "الولاء المطلق". فالعملاء الذين يتم برمجة عقلهم الباطني لتنفيذ مهمة معيّنة لا يمكنهم أن يكونوا خونة في حالتهم الواعية، لأنهم بكل بساطة لا يتذكرون شيئاً. كل ما يستطيع "الزومبي" فعله هو إظهار حالة الذهان الإجباري والهوس لتحقيق هدفه المُبرمج. حتى بالنسبة لعالم النفس المتمرّس، سيظهر ببساطة مجرّد "معتوه" لا جدوى منه. رغم أن "الزومبي" قد يحفظ بذاكرته بقايا تفصيلية لعملية إخضاعه للبرمجة السيكولوجية/العقلية في إحدى الوكالات الأمنية الحكومية، حيث يمكنه الإفصاح عنها خلال جلسات التحقيق الخاصة (تحت التنويم المغناطيسي)، لكن هذا لن يثير أي شكوك في خاطر الطبيب النفسي المُعيّن من قبل محكمة التحقيق. لكن في النهاية، وجب على "المعتوهين" أن يبقوا محبوسين في منفردات المجانين حيث يتم إخضاعهم للعلاج النفسي! ومن المفروض أن تمنع المستشفيات العقلية إخلاء سبيل أي من مرضاها المجانين قبل معالجته بالكامل، وإلا سوف يحاسبها القانون بشدة!

إلى أن يتم تطوير تقنية صنع "الزمبي" إلى حد الكمال، وجب أن يبقى استخدامهم محصوراً على الساحة الوطنية فقط ووفق مسرحيات مُصممة لإيجاد الذرائع المناسبة لتنامي قوة ونفوذ الحكومة المركزية في البلاد. معظم الراديكاليين الانتحاريين ومجرمين المعتوهين الذين يفلتون من عمليات القبض والتوقيف بشكل غامض لمدة سنوات طويلة هم من "الزومبي" الذين نبرمجهم لإرهاب الناس باسم أيديولوجيا معيّنة غير عقلانية. بعد صنع بعض الأحداث الإرهابية المتسلسلة، ينهار الرأي العام أمام شروط جديدة كان يرفضها سابقاً وأهمها هو ضرورة زيادة نفوذ الشرطة والأجهزة الأمنية على حساب حريات المواطن.

يتم الآن تسريع برنامج أبحاث مكثفة يتناول مجال "تعديل السلوك" behavior modification، ومُعظم الميزانية التي تُصرف على هذا المشروع هي على حساب دافعي الضرائب طبعاً، وتحت عنوان "إعادة تأهيل الصحّة العقلية" mental health and rehabilitation. يمكن إجراء هكذا أبحاث، ودون أي تذمّر أو شكوى من أحد، في السجون، مخيمات اللاجئين، مراكز إعادة تأهيل مدمني المخدرات، المستشفيات الحكومية، المستشفيات العسكرية، وحتى في المدارس العامة ومراكز الرعاية الاجتماعية. وتُعتبر مؤسسات الأمراض العقلية، ومراكز إدارة عقار الميثادون methadone، والسجون أراضٍ خصبة لتجنيد الأشخاص المناسبين للتحوّل إلى "زومبيات". وطبعاً، فقط القليل من عملاءنا الأكثر ثقة وتكتماً يشاركون في عمليات خلق "الزمبيات". أما العلماء اللامعين الذين يبحثون في هذا المجال العقلي/النفسي الاستثنائي، والذين يعود لهم الفضل في القفزات النوعية بهذا المجال، فيعتقدون بأن التقنيات التي يبتكرونها تُستخدم فقط لغايات خيّرة تهدف لتحسين وإصلاح الحالة الإنسانية الراهنة.

لكن في النهاية، سوف يبرز معارضة بين مجموعات قليلة من المواطنين والتي تعتبر أن مجال أبحاث "تعديل السلوك" behavior modification تمثّل انتهاك صارخ لحرية الإنسان المقدّسة، حتى لو كانت مقتنعة بأن نوايا الأبحاث بريئة وتهدف للخير. من أجل تجنّب هذه الأفعال الشاذة التي تبرز بين الحين والآخر، نعمل على إحداث بعض الفضائح المُختلقة بين الحين والآخر لإرضاء تلك المجموعات المعارضة لهذا التوجّه بحيث نوحي لهم بأن الاختبارات الجارية في هذا المجال لازالت متخلفة ولم تتطوّر أبعد من المرحلة التي يمكن اعتباره خطرة على الإنسان. والفضائح التي نختلقها صُممت خصيصاً وببراعة كبيرة لأن تُظهر العلماء بأنهم مغفلين لدرجة أنهم لم يصلوا مستوى الكفاءة التي تجعلهم قادرين على تحقيق إنجازات ثورية في هذا المجال. وإن انتشار أخبار موت بعض المرضى الخاضعين لأبحاثهم البدائية كافي لأن يقنع الجماهير بأن هذه التقنية لم تصل بعد إلى مستوى الخطورة المزعومة. وهذا وحده يساهم في إخفاء القفزات النوعية التي حققناها في هذا المجال الاستثنائي الذي اقترب كثيراً من الهدف النهائي: التحكّم المطلق بالعقول البشرية. هناك الكثير من الأشياء العظيمة تنتظرنا في المستقبل.
 ....... سوف أعيد الساحة لوالدك لطرح ملاحظاته الختامية ........



ملاحظاتي الختامية

ولدي، من المؤكّد أن لديك الكثير من الأسئلة حول إستراتيجيتي بخصوص الأزمات الاقتصادية والسياسية الراهنة والتي تزعزع العلاقات الوطنية والعالمية. أنا وأنت سنتناولها بالتفصيل لاحقاً. لكن الليلة دعني أكون موجزاً. مُعظم حالات الجيشان في الساحة الوطنية هي مسرحيات من إخراجنا، وتهدف إلى تدعيم موقعنا الاحتكاري في الحكومة والسوق ضدّ إزعاجات منافسينا المؤهلين اقتصادياً لكن غير الأكفاء سياسياً. وكذلك الحال، معظم الأزمات العالمية هي مُصطنعة ويتم إدارتها لزيادة الضغوط على عملائنا من الدكتاتوريين الجامحين والممانعين أحياناً في العالم الثالث. هذه الأحداث هي سهلة الإدارة. أتوقع أن أضع هكذا إدارة بين يديك في أقرب وقت ممكن.

التحدي الحقيقي يقع في التعامل مع نظرائي العالميين. فهؤلاء يمثلون الأزمة الحقيقية لأنهم يمثّلون أزمة بالنسبة لبنية النفوذ لدي، وليس فقط بالنسبة لقيادات الدُمى وأتباعي الذين هم رهن إشارتي. في لعبة الشطرنج واسعة المدى هذه، والتي ألعبها مع نظرائي، ليس هناك أي قواعد للعبة لكي نحتكم إليها، ولا تكتيكات معروفة مسبقاً للإرشاد بها. فقط التساهل المتبادل بين الفريقين يحدّ من النزاع. لقد جاهدنا أنا ونظرائي لعقود طويلة من أجل تشييد حكومة عالمية ومنظومة مصرفية يمكن من خلالها أن نتقاسم خيرات الرأسمالية المصرفية لقرون قادمة دون أن نخاطر في الدخول بدوامة حرب داخلية قاتلة بالنسبة لجميع الأطراف. بعد أن وصلنا لفترة أصبحت فيها الحرب النووية أمراً وارداً، رأينا أن نظاماً عالمياً جديداً أصبح مطلوباً. أكرّر وأقول بأننا نجاهد لإقامة حكومة عالمية لأنه ليس هناك بيننا من هو مستعدّ لتسليم سلطته للآخر. الأجندة التي وُضعت بعد الحرب العالمية الثانية لم تُنفّذ بالكامل بعد. وحتى الآن، فقد خدمت فكرة "الحكومة العالمية" بشكل عام في تحميس المفكرين الاشتراكيين، وساهمت من جهة أخرى في إخفاء مناورات كل رأسمالي خلال اجتهاده للتفوّق والارتقاء على حساب الآخرين.

من الصعب التنبؤ بالمسيرة المستقبلية للرأسمالية المصرفية. إن إمبراطورياتنا هشّة جداً للمخاطرة في الدخول بمعارك مع نظرائنا بهدف نيل السلطة المطلقة. فيمكن لقوتنا أن تقع في أيدي الصفّ الثاني من الرأسماليين خلال النزاع مع نظرائنا الكبار. لكن لازلنا نستمر في النهش من الإمبراطوريات المنافسة كلما سنحت لنا الفرصة، متبعين المبدأ القائل " الهجوم هو أفضل سياسة دفاع". ومن جهة أخرى، فإن الزعماء السياسيين، مهما توسّعت شعبيتهم، هم ضعفاء جداً أمام نفوذنا المالي. وبالتالي، عندما يبرز قياصرة في هذا العالم، فلا بد من أنهم من صنعنا.

ربما ستبقى منظومتنا كما هي على الأغلب، مستقرّة على المستوى الوطني وجماعية بشكل مضعضع على المستوى العالمي. وسيبقى الأمر كذلك إلى أن يتنامى المنطق والعقلانية والأنانية الكافية بين الجماهير الواسعة حتى يصل لدرجة معيّنة بحيث تصبح وسائلنا الخفية للسيطرة واضحة وجلية بالنسبة لهم، وهذا سوف يؤدي إما لنشوء فوضى عارمة، أو ابتداع شكل جديد ومتطوّر من الخداع مما يبقي السيطرة مستمرّة.



انتهــى
المراجــع

"... نحن مدينون بالفضل لـ"ميكافيلي" وغيره، الذي يكتب عن ما يفعله الناس، وليس عن ما وجب عليهم فعله..."
فرانسيس بيكون Francis Bacon
عن ميكافيلي، مؤلف كتاب "الأمير"


أفكار أساسية عن التاريخ،الاقتصاد، السياسة، الفلسفة، والطبيعة الإنسانية
Indispensable Thoughts on History, Economics, Politics, Philosophy, and Human Nature

Murray N. Rothbard: Economic Determinism and the Conspiracy Theory of History Revisited; Audio-Forum.
Nash: America's Great Depression;1972.
Carroll Quigley: Tragedy and Hope; Macmillan, 1966
Gabriel Kolko: The Triumph of Conservatism; Quadrangle
Carroll Quigley: The Evolution of Civilizations.
Anton S. LaVey: The Satanic Bible; Avon Books, 1969.
Arkon Daraul: Secret Societies; Citadel Press, 1962.
Count Egon Caesar Corti: The Rise of the House of Rothschild; ibid.,  The Reign of the House of Rothschild; Cosmopolitan Book Corp., 1928.
Max Stirner: The Ego and His Own; Libertarian Book Club, 1963.
Robert Ardrey: The Social Contract; Dell Publishing; 1970.
Friedrich Nietzsche: Beyond Good and Evil: Prelude to a Philosophy of the Future; Random House, 1966.
George Orwell: Animal Farm; New American Library
Niccolo Machiavelli: The Prince.
Ludwig von Mises: Theory and History; Arlington House, 1969.
Henry Regnery: Human Action; 1966.
James J. Martin: Revisionist Viewpoints; Ralph Myles Publisher, 1971.
Committee on Government Operations, U.S. Senate: Disclosure of Corporate Ownership; U.S. Government Printing Office, 1974.
Antony C. Sutton: Wall Street and the Bolshevik Revolution; ibid., Wall Street and FDR; Arlington House, 1975.

اليسار حول الطبقة الحاكمة
The Left on the Ruling Class

Gabriel Kolko: The Triumph of Conservatism; Quadrangle Books, 1967.
Richard Ney: The Wall Street Gang; Praeger Publishers, 1974.
Ferdinand Lundberg: The Rich and the Super-Rich; Lyle Stuart, 1968.
Ferdinand Lundberg: America's 60 Families; Vanguard, 1938.
William G. Domhoff: Who Rules America?; Prentice Hall, 1967.
W.G. Domhoff: The Higher Circles; Random House, 1970.
Matthew Josephson: Money Lords; New American Library, 1973.
M. Josephson: The Robber Barons; Harcourt Brace & Co., 1934.
George H. Shibley: The Money Question; Stable Money Publishing Co., 1896.
Jules Archer: The Plot to Seize the White House; Hawthorn Books, 1973.
William Hoffman: David: Report on a Rockefeller; Dell Publishing, 1972.
Joel Andreas: The Incredible Rocky; North American Congress on Latin America, 1973.
Gustavus Myers: The History of the Great American Fortunes; 1907

اليمين حول نظرية المؤامرة والتاريخ
The Right on the Conspiracy Theory of History

Antony C. Sutton: National Suicide; Arlington House, 1973.
Charles A. Lindbergh, Sr.: The Economic Pinch; Dorrance & Company, Inc., 1923, Reprinted by Omni Publications.
Louis T. McFadden: Collective Speeches of Congressman McFadden; Omni Publications, 1970.
H.S. Kenan: The Federal Reserve Bank; The Noontide Press, 1968.
Gary Allen: None Dare Call It Conspiracy; Concord Press, 1973.
G. Allen: Richard Nixon: The Man Behind the Mask; Western Islands, 1971.
G. Allen: The Rockefeller File; '76 Press, 1976.
Dan Smoot: The Invisible Government; The Dan Smoot Report, Inc., 1962.
W. Cleon Skousen: The Naked Capitalist; The Author, 1970.
Taylor Caldwell: Captains and Kings; Fawcett Publications, 1973.
John Robison: Proofs of Conspiracy; 1798, Reprinted by Western Islands.
Nesta Webster: Secret Societies and Subversive Movements; Christian Book Club, 1967.
A. N. Field: The Truth About the Slump; 1931, Reprinted by Omni Publications, 1962.
William Robert Plumme: The Untold History; The Committee for the Restoration of the Republic, 1964.
June Grem: Karl Marx: Capitalist; Enterprise Publications, 1972.
Emanuel Josephson: Rockefeller Internationalist: Man Who Misrules the World; Chedney Press, 1962.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق