(1) مازلنا نتحدث عن إمبراطورية روكفلر..
وهذا مشهد آخر من سلسلة المشاهد العجيبة نتطلع إليه فتصيبنا الدهشة: فرؤساء دول العالم الذين يذهبون إلى الولايات المتحدة في زيارة رسمية هناك دائماً بند مقرر عليهم في برنامجهم أن يقوموا بزيارة شخصية إلى المقر الرئيس لإدارة إمبراطورية روكفلر ومقابلة عميد الأسرة الأكبر.. حتى إمبراطور اليابان ورئيس الاتحاد السوفييتي لم يُستثنيا من هذه الزيارة المقدّسة.. والأغرب من هذا أنه عندما يتوجه عميد أسرة روكفلر لزيارة أي دولة أجنبية فإنه يُمنح استقبالاً رسمياً كرؤساء الدول... بينما الشعب الأمريكي لا يلقى بالاً لأهمية روكفلر.. وهنا يصدمنا هذا التناقض ويجعلنا نتساءل عن السر في ذلك...!
والإجابة البسيطة التي يستخلصها الدارس الفاحص هي أن روكفلر وصحبه وإن كانوا هم الذين يقبضون على زمام السلطة الحقيقية في الولايات المتحدة إلا أنهم قد اختاروا بحكمة أن يجلسوا خلف الكواليس.. ولذلك نادراً ما تظهر أسماؤهم في الأخبار.. أما من نراهم يتحركون على المسرح، ويظهرون أمام الجماهير، وتملأ تصريحاتهم عن سياسة الدولة الصحافة والإعلام، فهؤلاء في حقيقة الأمر الأتباع الذين يدينون بالولاء لروكفلر وصحبه ويخدمون مصالحهم.. إنهم أتباع بدرجات مختلفة تبدأ أو تنتهي بمنصب رئيس الجمهورية.. وهذه إحدى عجائب هذا الزمن...!
ولكن علينا أن نفهم.. وحتماً سيأتي اليوم الذي يتبين لنا فيه أن هؤلاء الناس الذين يقبضون على زمام السلطة الحقيقية في الولايات المتحدة يفضلون أن يتجنبوا الإعلانات والمظهريات تاركين لأتباعهم السياسيين المتخصصين في هذه المهمة بحكم تعليمهم وتدريبهم على الظهور والكلام والإقناع الجماهيري.. قد لا تكون سطوة ديفيد أو جون روكفلر على مستوى ما يظهر من نفوذ وسطوة رئيس الولايات المتحدة.. ولكن الرؤساء هناك عندهم (وليس عندنا) يظهرون ثم يختفون في بضع سنوات قليلة تتراوح بين أربعة إلى ثمانية سنوات بلا زيادة.. ثم يختفي الرئيس ويصبح شخصية عادية يأكل الطعام ويمشى في الأسواق مثل بقية البشر.. و إذا كان مرْضيّاً عنه قد يُنتدب لمهمة توفيقية أو استطلاعية إلى مواقع الاضطرابات في العالم مثل دارفور أو البوسنة لمدة محدودة ولغرض مرسوم، أما [الإمبراطور] روكفلر فهو باق خارج هذا المشهد السياسي الإنساني كله.. يبقى مراقباً محركًا للقوى الفاعلة من وراء حجاب...! ربما تذكر كتب التاريخ هؤلاء الرؤساء.. ويُقدم بعضهم للمحاكمات على خطاياهم وجرائمهم.. وبعضهم وربما أفضلهم يتم اغتياله ولا يعرف أحد بعد ذلك أبداً المجرم الحقيقي ولا من كان وراء جريمة الاغتيال.. ثم يكنس الزمن كل من سبق من الرؤساء فيخرجون من ذاكرة البشر بعد أن انتهت صلاحياتهم.. أما سلطة روكفلر فتنتقل من جيل إلى جيل مثل ألقاب النبالة.. وتصبح في حد ذاتها واقعاً أبديّاً حيّاً ونامياً حتى يرث الله الأرض ومن عليها...!
(2) روشتة الطبيب:
كما سبق أن رأينا كارتلة (روكفلر - فارْبـِن) أصبحت هي صاحبة السطوة الشاملة على صناعة الدواء.. وأصبح هذا الواقع يفرز لنا حقائق ثابتة على الأرض من أهمها وأخطرها انعدام المنافسة في الأسعار الاستهلاكية بين الأدوية الموصوفة.. ولم يعد هناك من منافسة سوى ما نشاهده من إعلانات لا سبيل للتحقّق من صحتها مثل: " لقد أثبتت المختبرات المعملية أن (باير) هو الأفضل".. أو أن "البحث العلمي قد أثبت أن ( أناسين) هو الأسرع مفعولاً"...إلخ. وعلى مر الأيام وصلت شركات صناعة الأدوية إلى اتفاقيات فيما بينها تقضى بأن تبقى كل شركة في حدود تخصصها الضيق وأن تمتنع عن محاولة المنافسة في السوق المستقر لمنافسيها الآخرين.. يعني صناعة منظمة ومهذبة وتحت سيطرة الكبار الأقوياء...!
أحد أسباب انعدام المنافسة أن معظم الأدوية قد سجلت براءات اختراعها وأصبحت متاحة فقط عند منتِج أو صانع واحد.. أما السبب الآخر فهو أن الروشتة (الموصوفة) يصدرها طبيب.. أكبر همّه هو فاعلية الدواء أو كفاءته بصرف النظر عن ثمنه.. ومع ذلك فإن شركات الأدوية أصبحت تقذف في السوق بفيض من أصناف الأدوية حتى أن الطبيب لم يعد قادراً على التمييز بينها لمعرفة أكثرها كفاءة في العلاج.. وكل ما يعرفه أنه رأى إعلانات عن هذا الدواء أو ذاك في مجلة طبية.. أو أنه قد تسلم إعلاناً من ورق مصقول يحتوي على بعض المعلومات، من أحد مندوبي مبيعات شركات الأدوية.. أو أنه قد لاحظ بعض النجاح في استخدام هذا الدواء أو ذاك على بعض المرضى.. ولأنه (مجرد ممارس عام أو أخصائي أو حتى مستشار) وليس باحثاً، لا يمكن أن يقوم بتجارب محكمة لكي يتأكد بنفسه من الكفاءة النسبية للدواء الجديد مقارنة بالأدوية القديمة أو الأدوية المماثلة التي تنتجها شركات أخرى.. وكل ما يستطيع أن يعرفه أو يقرره هو: أن هذه الأدوية قد ساعدت بعض مرضاه على الشفاء.. وفي حالة ما إذا لم يأت الدواء بنتيجة سريعة فإن كل ما يفعله الطبيب هو أنه يصف دواء آخر للمريض على سبيل التجربة.. وبهذه الطريقة يضطر المريض لشراء أدوية عديدة من شركات مختلفة.. كل شركة تأخذ نصيبها من جيب المريض المسكين على أمل أن يجد الشفاء في واحد من هذه الأدوية المتعددة...
عبّر عن هذه الحقيقة بصراحة جارحة دكتور "جورج بائير" في مؤتمر طبي عقد بجامعة هوبكنز قال : "كنت مستشاراً لسنوات طويلة لأطباء في عياداتهم الخاصة.. وقد لاحظت أن كثيراً من الأطباء سواء منهم الممارسين العامين أو الأخصائيين قد اعتادوا على التنقل المتكرر ( بدون ضرورة ظاهرة ) من دواء إلى دواء آخر في علاج مرضاهم.. وعرفت أن السبب في ذلك كان تأثرهم بالإعلانات والزيارات التي يقوم بها رجال التسويق التابعين لشركات الأدوية".. و إذا ذهبنا نفحص شعور الطبيب وهو يفعل هذا لوجدنا أنه لا يشعر بأن ما يفعله أمر غير لائق.. بل يشعر أنه إنما يفعل كل ما يستطيعه لمساعدة مريضه على الشفاء.. [ومع قليل من تحليل الموقف ستجد أن الطبيب في واقع الأمر يساعد مرضاه بما أخبره به الآخرون، وأعني بهم أصحاب المصلحة في تسويق الدواء بزعم أنهم يبيعون آخر ما توصّلت إليه الأبحاث في تكنولوجيا الأدوية].. وهنا يجب أن نتنبه إلى أن الطبيب ليس هو الذي يكسب من وراء كتابة الروشتة..!! فإذا مضينا أكثر قليلاً في تحليل الموقف لوجدنا الكاسب الأكبر هو شركات الأدوية الكبرى التي تحصد الملايين بل البلايين من الدولارات.. والطبيب إنما هو مجرد مروّج أو بائع بلا أجر.. مع أنه يقوم بخدمة حيوية لهذه الشركات لا يمكن الاستغناء عنها..
(3) التعليم الطبيّ:
تعلّم الطبيب على القيام بهذا الدور في كلية الطب وهو لا يزال طالباً يدرس.. تعلّم أداء هذه الخدمة بدون مقابل.. ففي مناهج التعليم بجميع كليات الطب الكبرى في أمريكا الطلاب معرضون لنوع من التدريب المكثف في استخدام الأدوية.. إنهم جميعاً يتعلمون ويتدربون لكي يستخدموا الأدوية الكيماوية كعلاج لجميع أمراض الإنسان باعتبارها الاختيار الأوحد.. والسؤال هنا: كيف استقرت جميع كليات الطب على تبني هذا المنهج الموحد في العلاج..؟؟
هذا هو السؤال الذي سنحاول الإجابة عليه.. ولكن الإجابة ليست من السهولة والبساطة بحيث تقدم مباشرة بدون مقدمات.. لأنها حينئذ لن تكون مفهومة.. ولن تكون مفتاحاً لحل مشكلة بل يمكن أن تزيد المشكلة تعقيداً.. وإذا قلت لك إن الإجابة على هذا السؤال تقتضي منا أن نفهم منظومة بنك الاحتياط الفدرالي الأمريكي؛ وأن نفهم قصة ضريبة الدخل والإعفاء الضريبي في الولايات المتحدة.. لو قلت لك إن هذه القضايا تضرب في صميم المشكلة التي نحن بصددها..! فماذا يكون رد الفعل عندك.."! لا أظن أن أحداً يمكن أن يمسك نفسه عن الدهشة والاستغراب وربما الاستنكار أيضاً.. وهو محقّ فيما يفعل.. فهذه مسائل مالية اقتصادية صرفة.. وقضيتنا هي قضية الطب والأطباء والعلاج و الاحتكارات الكبرى في الصناعات الدوائية.. يعني هذا مجال وذاك مجال آخر..! وأقول لك: لقد نسيت أنني أتحدث عن أمريكا.. وأمريكا هي بلاد العجائب.. هنا.. في هذه البلاد.. تلد العنقاء وتبيض وتفرخ.. وكل مستحيل آخر مما تتخيل ومما لا يستطيع خيالك أن يقبض عليه موجود هنا بزفرة خيالية..
أقول لك: إن الذين صمموا هذه المنظومات المالية والضريبية لأمريكا وللشعب الأمريكي هم أصحاب التكتلات الاحتكارية في الصناعة والمال.. لخدمة مصالحهم الخاصة ولنهب ثروة أمريكا وثروة العالم.. ثم وضعت في الكونجرس ليوافق عليها.. ثم تقوم حكومات الولايات المتحدة الأمريكية بتنفيذها رغم أنف بعض كبار مفكريها من الآباء الأوائل ورؤساء الجمهورية.. بعض هؤلاء وربما أشهرهم في التاريخ الأمريكي دُبرت مؤامرات لقتلهم.. وبعضهم تم اغتياله بالفعل.. وكان آخرهم "جون فيتزجيرالد كنيدي"..
ثم أضيف إن الذين صمموا هذه المنظومات المالية هم هم أنفسهم الذين صمموا مناهج الطب والعلاج في الولايات المتحدة.. والهدف (مرة أخرى) خدمة مصالح تكتلاتهم الاحتكارية في الصناعات الدوائية... وستعرف أن نظام ضرائب الدخل والإعفاء الضريبي تتداخل بشكل معقّد بمنظومة العلاج والطب في أمريكا.. فإذا عرفت تفاصيل ذلك كله لن تملك نفسك من الصياح ذهولاً: أي شيطان هذا الذي يدير هذه الشبكات الرهيبة.. ؟! وأي عقل هذا الذي يهيمن على كل تفصيلاتها ويقبض على ناصيتها بقبضة جهنمية...؟!
أمس فقط شاهدت على التلفاز مقابلة مع مدير جمعية الطب الأمريكية يتحدث عن محاولة أوباما تغطية خمسين مليون أمريكي بالخدمة الصحية الشاملة على غرار ما كان متّبعاً في دول أوربية.. إنه يعارض هذا الاتجاه أو يقترح تدعيم العاجزين عن الحصول على العلاج لتكاليفه الباهظة بالمال.. بحجة أن يكون أمامهم اختيارات بديلة مع شركات التأمين الصحي.. والسر في الاعتراض أن هذا الرجل وأمثاله ممن يديرون الجمعيات والمؤسسات ذات البريق والهالات ليسو أكثر من وكلاء أو أتباع للقوى الاحتكارية في مجال الصناعات الدوائية والتأمين الصحي.. والمروّجين للمصالح الخاصة لهذه القوى.. وإن غلّّفوا تصريحاتهم بمزاعم الدفاع عن مصالح الجماهير...!
وهذا مشهد آخر من سلسلة المشاهد العجيبة نتطلع إليه فتصيبنا الدهشة: فرؤساء دول العالم الذين يذهبون إلى الولايات المتحدة في زيارة رسمية هناك دائماً بند مقرر عليهم في برنامجهم أن يقوموا بزيارة شخصية إلى المقر الرئيس لإدارة إمبراطورية روكفلر ومقابلة عميد الأسرة الأكبر.. حتى إمبراطور اليابان ورئيس الاتحاد السوفييتي لم يُستثنيا من هذه الزيارة المقدّسة.. والأغرب من هذا أنه عندما يتوجه عميد أسرة روكفلر لزيارة أي دولة أجنبية فإنه يُمنح استقبالاً رسمياً كرؤساء الدول... بينما الشعب الأمريكي لا يلقى بالاً لأهمية روكفلر.. وهنا يصدمنا هذا التناقض ويجعلنا نتساءل عن السر في ذلك...!
والإجابة البسيطة التي يستخلصها الدارس الفاحص هي أن روكفلر وصحبه وإن كانوا هم الذين يقبضون على زمام السلطة الحقيقية في الولايات المتحدة إلا أنهم قد اختاروا بحكمة أن يجلسوا خلف الكواليس.. ولذلك نادراً ما تظهر أسماؤهم في الأخبار.. أما من نراهم يتحركون على المسرح، ويظهرون أمام الجماهير، وتملأ تصريحاتهم عن سياسة الدولة الصحافة والإعلام، فهؤلاء في حقيقة الأمر الأتباع الذين يدينون بالولاء لروكفلر وصحبه ويخدمون مصالحهم.. إنهم أتباع بدرجات مختلفة تبدأ أو تنتهي بمنصب رئيس الجمهورية.. وهذه إحدى عجائب هذا الزمن...!
ولكن علينا أن نفهم.. وحتماً سيأتي اليوم الذي يتبين لنا فيه أن هؤلاء الناس الذين يقبضون على زمام السلطة الحقيقية في الولايات المتحدة يفضلون أن يتجنبوا الإعلانات والمظهريات تاركين لأتباعهم السياسيين المتخصصين في هذه المهمة بحكم تعليمهم وتدريبهم على الظهور والكلام والإقناع الجماهيري.. قد لا تكون سطوة ديفيد أو جون روكفلر على مستوى ما يظهر من نفوذ وسطوة رئيس الولايات المتحدة.. ولكن الرؤساء هناك عندهم (وليس عندنا) يظهرون ثم يختفون في بضع سنوات قليلة تتراوح بين أربعة إلى ثمانية سنوات بلا زيادة.. ثم يختفي الرئيس ويصبح شخصية عادية يأكل الطعام ويمشى في الأسواق مثل بقية البشر.. و إذا كان مرْضيّاً عنه قد يُنتدب لمهمة توفيقية أو استطلاعية إلى مواقع الاضطرابات في العالم مثل دارفور أو البوسنة لمدة محدودة ولغرض مرسوم، أما [الإمبراطور] روكفلر فهو باق خارج هذا المشهد السياسي الإنساني كله.. يبقى مراقباً محركًا للقوى الفاعلة من وراء حجاب...! ربما تذكر كتب التاريخ هؤلاء الرؤساء.. ويُقدم بعضهم للمحاكمات على خطاياهم وجرائمهم.. وبعضهم وربما أفضلهم يتم اغتياله ولا يعرف أحد بعد ذلك أبداً المجرم الحقيقي ولا من كان وراء جريمة الاغتيال.. ثم يكنس الزمن كل من سبق من الرؤساء فيخرجون من ذاكرة البشر بعد أن انتهت صلاحياتهم.. أما سلطة روكفلر فتنتقل من جيل إلى جيل مثل ألقاب النبالة.. وتصبح في حد ذاتها واقعاً أبديّاً حيّاً ونامياً حتى يرث الله الأرض ومن عليها...!
(2) روشتة الطبيب:
كما سبق أن رأينا كارتلة (روكفلر - فارْبـِن) أصبحت هي صاحبة السطوة الشاملة على صناعة الدواء.. وأصبح هذا الواقع يفرز لنا حقائق ثابتة على الأرض من أهمها وأخطرها انعدام المنافسة في الأسعار الاستهلاكية بين الأدوية الموصوفة.. ولم يعد هناك من منافسة سوى ما نشاهده من إعلانات لا سبيل للتحقّق من صحتها مثل: " لقد أثبتت المختبرات المعملية أن (باير) هو الأفضل".. أو أن "البحث العلمي قد أثبت أن ( أناسين) هو الأسرع مفعولاً"...إلخ. وعلى مر الأيام وصلت شركات صناعة الأدوية إلى اتفاقيات فيما بينها تقضى بأن تبقى كل شركة في حدود تخصصها الضيق وأن تمتنع عن محاولة المنافسة في السوق المستقر لمنافسيها الآخرين.. يعني صناعة منظمة ومهذبة وتحت سيطرة الكبار الأقوياء...!
أحد أسباب انعدام المنافسة أن معظم الأدوية قد سجلت براءات اختراعها وأصبحت متاحة فقط عند منتِج أو صانع واحد.. أما السبب الآخر فهو أن الروشتة (الموصوفة) يصدرها طبيب.. أكبر همّه هو فاعلية الدواء أو كفاءته بصرف النظر عن ثمنه.. ومع ذلك فإن شركات الأدوية أصبحت تقذف في السوق بفيض من أصناف الأدوية حتى أن الطبيب لم يعد قادراً على التمييز بينها لمعرفة أكثرها كفاءة في العلاج.. وكل ما يعرفه أنه رأى إعلانات عن هذا الدواء أو ذاك في مجلة طبية.. أو أنه قد تسلم إعلاناً من ورق مصقول يحتوي على بعض المعلومات، من أحد مندوبي مبيعات شركات الأدوية.. أو أنه قد لاحظ بعض النجاح في استخدام هذا الدواء أو ذاك على بعض المرضى.. ولأنه (مجرد ممارس عام أو أخصائي أو حتى مستشار) وليس باحثاً، لا يمكن أن يقوم بتجارب محكمة لكي يتأكد بنفسه من الكفاءة النسبية للدواء الجديد مقارنة بالأدوية القديمة أو الأدوية المماثلة التي تنتجها شركات أخرى.. وكل ما يستطيع أن يعرفه أو يقرره هو: أن هذه الأدوية قد ساعدت بعض مرضاه على الشفاء.. وفي حالة ما إذا لم يأت الدواء بنتيجة سريعة فإن كل ما يفعله الطبيب هو أنه يصف دواء آخر للمريض على سبيل التجربة.. وبهذه الطريقة يضطر المريض لشراء أدوية عديدة من شركات مختلفة.. كل شركة تأخذ نصيبها من جيب المريض المسكين على أمل أن يجد الشفاء في واحد من هذه الأدوية المتعددة...
عبّر عن هذه الحقيقة بصراحة جارحة دكتور "جورج بائير" في مؤتمر طبي عقد بجامعة هوبكنز قال : "كنت مستشاراً لسنوات طويلة لأطباء في عياداتهم الخاصة.. وقد لاحظت أن كثيراً من الأطباء سواء منهم الممارسين العامين أو الأخصائيين قد اعتادوا على التنقل المتكرر ( بدون ضرورة ظاهرة ) من دواء إلى دواء آخر في علاج مرضاهم.. وعرفت أن السبب في ذلك كان تأثرهم بالإعلانات والزيارات التي يقوم بها رجال التسويق التابعين لشركات الأدوية".. و إذا ذهبنا نفحص شعور الطبيب وهو يفعل هذا لوجدنا أنه لا يشعر بأن ما يفعله أمر غير لائق.. بل يشعر أنه إنما يفعل كل ما يستطيعه لمساعدة مريضه على الشفاء.. [ومع قليل من تحليل الموقف ستجد أن الطبيب في واقع الأمر يساعد مرضاه بما أخبره به الآخرون، وأعني بهم أصحاب المصلحة في تسويق الدواء بزعم أنهم يبيعون آخر ما توصّلت إليه الأبحاث في تكنولوجيا الأدوية].. وهنا يجب أن نتنبه إلى أن الطبيب ليس هو الذي يكسب من وراء كتابة الروشتة..!! فإذا مضينا أكثر قليلاً في تحليل الموقف لوجدنا الكاسب الأكبر هو شركات الأدوية الكبرى التي تحصد الملايين بل البلايين من الدولارات.. والطبيب إنما هو مجرد مروّج أو بائع بلا أجر.. مع أنه يقوم بخدمة حيوية لهذه الشركات لا يمكن الاستغناء عنها..
(3) التعليم الطبيّ:
تعلّم الطبيب على القيام بهذا الدور في كلية الطب وهو لا يزال طالباً يدرس.. تعلّم أداء هذه الخدمة بدون مقابل.. ففي مناهج التعليم بجميع كليات الطب الكبرى في أمريكا الطلاب معرضون لنوع من التدريب المكثف في استخدام الأدوية.. إنهم جميعاً يتعلمون ويتدربون لكي يستخدموا الأدوية الكيماوية كعلاج لجميع أمراض الإنسان باعتبارها الاختيار الأوحد.. والسؤال هنا: كيف استقرت جميع كليات الطب على تبني هذا المنهج الموحد في العلاج..؟؟
هذا هو السؤال الذي سنحاول الإجابة عليه.. ولكن الإجابة ليست من السهولة والبساطة بحيث تقدم مباشرة بدون مقدمات.. لأنها حينئذ لن تكون مفهومة.. ولن تكون مفتاحاً لحل مشكلة بل يمكن أن تزيد المشكلة تعقيداً.. وإذا قلت لك إن الإجابة على هذا السؤال تقتضي منا أن نفهم منظومة بنك الاحتياط الفدرالي الأمريكي؛ وأن نفهم قصة ضريبة الدخل والإعفاء الضريبي في الولايات المتحدة.. لو قلت لك إن هذه القضايا تضرب في صميم المشكلة التي نحن بصددها..! فماذا يكون رد الفعل عندك.."! لا أظن أن أحداً يمكن أن يمسك نفسه عن الدهشة والاستغراب وربما الاستنكار أيضاً.. وهو محقّ فيما يفعل.. فهذه مسائل مالية اقتصادية صرفة.. وقضيتنا هي قضية الطب والأطباء والعلاج و الاحتكارات الكبرى في الصناعات الدوائية.. يعني هذا مجال وذاك مجال آخر..! وأقول لك: لقد نسيت أنني أتحدث عن أمريكا.. وأمريكا هي بلاد العجائب.. هنا.. في هذه البلاد.. تلد العنقاء وتبيض وتفرخ.. وكل مستحيل آخر مما تتخيل ومما لا يستطيع خيالك أن يقبض عليه موجود هنا بزفرة خيالية..
أقول لك: إن الذين صمموا هذه المنظومات المالية والضريبية لأمريكا وللشعب الأمريكي هم أصحاب التكتلات الاحتكارية في الصناعة والمال.. لخدمة مصالحهم الخاصة ولنهب ثروة أمريكا وثروة العالم.. ثم وضعت في الكونجرس ليوافق عليها.. ثم تقوم حكومات الولايات المتحدة الأمريكية بتنفيذها رغم أنف بعض كبار مفكريها من الآباء الأوائل ورؤساء الجمهورية.. بعض هؤلاء وربما أشهرهم في التاريخ الأمريكي دُبرت مؤامرات لقتلهم.. وبعضهم تم اغتياله بالفعل.. وكان آخرهم "جون فيتزجيرالد كنيدي"..
ثم أضيف إن الذين صمموا هذه المنظومات المالية هم هم أنفسهم الذين صمموا مناهج الطب والعلاج في الولايات المتحدة.. والهدف (مرة أخرى) خدمة مصالح تكتلاتهم الاحتكارية في الصناعات الدوائية... وستعرف أن نظام ضرائب الدخل والإعفاء الضريبي تتداخل بشكل معقّد بمنظومة العلاج والطب في أمريكا.. فإذا عرفت تفاصيل ذلك كله لن تملك نفسك من الصياح ذهولاً: أي شيطان هذا الذي يدير هذه الشبكات الرهيبة.. ؟! وأي عقل هذا الذي يهيمن على كل تفصيلاتها ويقبض على ناصيتها بقبضة جهنمية...؟!
أمس فقط شاهدت على التلفاز مقابلة مع مدير جمعية الطب الأمريكية يتحدث عن محاولة أوباما تغطية خمسين مليون أمريكي بالخدمة الصحية الشاملة على غرار ما كان متّبعاً في دول أوربية.. إنه يعارض هذا الاتجاه أو يقترح تدعيم العاجزين عن الحصول على العلاج لتكاليفه الباهظة بالمال.. بحجة أن يكون أمامهم اختيارات بديلة مع شركات التأمين الصحي.. والسر في الاعتراض أن هذا الرجل وأمثاله ممن يديرون الجمعيات والمؤسسات ذات البريق والهالات ليسو أكثر من وكلاء أو أتباع للقوى الاحتكارية في مجال الصناعات الدوائية والتأمين الصحي.. والمروّجين للمصالح الخاصة لهذه القوى.. وإن غلّّفوا تصريحاتهم بمزاعم الدفاع عن مصالح الجماهير...!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق