الأربعاء، 9 ديسمبر 2015

تقيرات: يبدو أن الوقت قد حان لأن تصبح تركيا قوة إقليمية وعلى موسكو أن تعي ذلك


تقيرات: يبدو أن الوقت قد حان لأن تصبح تركيا قوة إقليمية وعلى موسكو أن تعي ذلك

2015-12-9 | تقديرات: يبدو أن الوقت قد حان لأن تصبح تركيا قوة إقليمية وعلى موسكو أن تعي ذلك
في مقال مطول نشره مركز "ستراتفور"، التحليلي الاستخباري الأمريكي، عما أسماه "الزمن التركي"، خلُصت الكاتبة، "ريفا بهالا"، إلى أن المرحلة مُهيأة أمام أنقرة لأن تصبح قوة إقليمية، وهو ما كانت تطمح إليه دائما.
ورأت أن أداء بوتين في تعامله مع حادثة إسقاط الطائرة الروسية كان "دراميًّا" بعض الشيء، غير أن هناك حقيقة جغرافية سياسية صعبة وراء صدمته واستيائه من تركيا.
ذلك أن روسيا تدرك أهمية الحفاظ على صداقة تركيا عندما تكون في مواجهة القوى الأكبر في الغرب. وذلك لأن أنقرة تملك مفاتيح مضيقي البوسفور والدردنيل، باعتبارها الممرَ الوحيد الذي يمكن من خلاله أن تصل السفن الحربية والتجارية الروسية إلى البحر المتوسط من الموانئ الدافئة لروسيا على البحر الأسود. بالإضافة إلى أن جميع الحسابات الخاصة بـبوتين في تعامله مع الولايات المتحدة تصطدم بحقيقة غير مريحة، مفادها أن موسكو لا يمكنها الركون إلى حياد تركيا في واحدة من أكثر المناطق إستراتيجية على الخريطة.
وقد اعترفة اتفاقية مونترو لعام 1936 رسميا بأحقية تركيا في الإشراف على المضايق على أن تضمن حرية مرور السفن التجارية في أوقات السلم وأن تفرض قيودا على سفن الحرب بناء على حجم ونوعية وحمولة كل منها.
ووفقا للاتفاق، فإن سفن الحرب، من غير دول البحر الأسود، التي تسمح لها تركيا بدخول المضيق، لا تستطيع البقاء في البحر الأسود لمدة أطول من 21 يوما. في أوقات الحرب، من المتوقع أن تحظر تركيا مرور سفن المتحاربين من المضيق تماما للحفاظ على منطقة البحر الأسود خارج الصراع.
ولم يكن السوفييت أبدا راضين عن حياد تركيا، لأنهم كانوا يشعرون أن أنقرة سوف تميل إلى الغرب عندما تتأزَم الأوضاع. وقد طالب السوفييت الأتراك عام 1946 بأن يعطوهم حقوقا في مضيق الدردنيل، وهددوا بضم أجزاء من شرق تركيا وحتى إثارة الانفصاليين الأكراد ودعم المطالبات السورية في محافظة هاتاي.
فبدأت تركيا إثر هذه التهديدات بالبحث عن مساعدة أمريكا. وقد أوضح سفير الولايات المتحدة في تركيا "إدوين ويلسون" لوزير الخارجية الأمريكي آنذاك "جيمس بيرنر" أن "الهدف الحقيقي للسوفييت تجاه تركيا ليس إعادة النظر في نظام المضيق، ولكن السيطرة الفعلية على تركيا. ضمن إطار الحزام الأمني الواسع للاتحاد السوفييتي الذي يمتد من بحر البلطيق إلى البحر الأسود، تمثل تركيا ثغرة وحيدة .. لذا فإن هدف السوفييت هو كسر هذه الحكومة التركية المستقلة وأن تضع مكانها نظاما تابعا لها، وبذلك تستكمل بناء الحزام الأمني للبلدان التابعة لها على حدودها الغربية والجنوبية وتضع حدا للنفوذ الغربي في تركيا".
وهنا أدرك الجميع أن الوقت قد حان بالنسبة للولايات المتحدة لتضع تركيا تحت مظلتها الأمنية.
في 6 إبريل عام 1946، وصلت حاملة الطائرات "يو إس إس – ميسوري" إلى إسطنبول بحجة تسليم رفات السفير التركي لدى الولايات المتحدة، والذي لقي حتفه على الأراضي الأمريكية. احتفلت تركيا بوصول السفينة الحربية الأمريكية من خلال إصدار طوابع خاصة إضافة إلى الهدايا الموجهة لضباط البحرية الأمريكية.
وقد كان هذا العرض المتباهي للمظلة الأمنية الأمريكية تمهيدا لطلب الرئيس الأمريكي "ترومان" في فبرارير عام 1947 إلى الكونغرس تقديم مساعدات خارجية لتركيا واليونان "لمساعدة الشعوب الحرة في تقرير مصائرها وفق طريقتها الخاصة"، وكانت هذه هي عقيدة "ترومان" خلال الحرب البادرة: على تركيا أن تكون في صف الولايات المتحدة.
***
الآن قد عادت المنافسة الروسية التركية من جديد، ليس لأن كلا الطرفين أو أحدهما قد أراد ذلك، ولكن لأن الجغرافيا السياسية قد أجبرت كل منهما عليه.
إذ إن بوتين وأردوغان يحملان إرث اثنين من الإمبراطوريات التاريخية، خاضتا حروبا ضد بعضهما البعض ما بين القرن السابع عشر إلى القرن التاسع عشر. ومع التحولات التي يشهدها البلدان، فقد وجدا نفسيهما أندادا.
وأول ملامح ذلك، كان في شهر أغسطس من العام 2008، عندما غزت روسيا جورجيا، حيث نبه ذلك تركيا إلى أن موسكو جاهزة ولديها الإرادة لاستخدام قوتها العسكرية لإعادة تشكيل محميات أمنية في فلك الاتحاد السوفيتي السابق لمواجهة الزحف الغربي.
ولم تكن روسيا مرتاحة، حينها، وهي ترى سماح تركيا للسفن الحربية الأمريكية بالمرور عبر البحر الأسود من أجل إيصال المساعدات إلى الموانئ الجورجية. عبرت موسكو عن استيائها عبر إيقاف الآلاف من الشاحنات التركية على الحدود الروسية. ولكن كلا الجانبين قد تزحزح قليلا من أجل تجنب حدوث صدع أكبر.
ثم كان الغزو الروسي للقرم في عام 2014 هو الضربة التالية التي وجهتها روسيا إلى أمعاء تركيا. إذ يقيم 300 ألف من التتار الناطقين بالتركية في شبه جزيرة القرم منذ العصر العثماني.
والاهتمام التركي هناك يتجاوز البعد العرقي، حيث أدركت أنقرة أن ميزان القوى في البحر الأسود قد يشهد تحولات. ذلك أن استيلاء روسيا على شبه جزيرة القرم يعني أن موسكو ما عادت تقنع بالتعامل عبر الترتيبات الهشة مع الحكومة الزئبقية في كييف. فروسيا الآن تتمتع بحرية كبيرة لتعزيز أسطولها على البحر الأسود والمصمم بشكل كبير لمواجهة القوة البحرية التركية.
وجاء التدخل العسكري لروسيا في سوريا في العام 2015 ليشكل تجاوزا للخطوط الحمراء بالنسبة إلى تركيا. ذلك أن حزب العدالة والتنمية الإسلامي يضع ساحته الخلفية في الشرق الأوسط المتقلب على رأس سلم أولوياته، حيث ينصب التركيز التركي على شمال سوريا وشمال العراق، وهو حزام المحافظات العثمانية التي تمتد بشكل طبيعي شرقا من محافظة هاتاي التركية.
التدخل العسكري الروسي في سوريا من أجل الدفاع عن الحكومة العلوية يعاكس أهداف تركيا بتوسيع وجودها العسكري في حلب والحفاظ على قدرتها على تحجيم النشاط الانفصالي الكردي، وفي نهاية المطاف استبدال الرئيس السوري "بشار الأسد" بحكومة سنية صديقة للمصالح التركية.
ورغم أن سوريا، وفقا للكاتبة، تمثل مصلحة هامشية بالنسبة للروس تماما كما إن أوكرانيا هي مصلحة هامشية بالنسبة للأتراك، فإن هناك العديد من العوامل التي تجعل من تدخل الجيش الروسي على مقربة من المصالح الجوهرية لتركيا على الحدود التركية السورية أمرا خطرا.
فتنظيم "الدولة الإسلامية" يشكل تهديدا حقيقيا لروسيا، وموسكو لديها مصلحة مشروعة في استهداف التهديد في مصدره. في الوقت نفسه، تتركز العلاقات الروسية في سورية في الأوساط العلوية، حيث ترى موسكو أن نفوذها وتأثيرها في الحكومة العلوية يشكل ورقة مؤثرة في التفاوض مع الولايات المتحدة، وكذا للحفاظ على الاعتماد الإيراني على موسكو ومواجهة خطر "الدولة الإسلامية". وكلما صارت ساحة المعركة أكثر ازدحاما، زادت فرص التصادم الروسي التركي.
***
وللحفاظ على إمدادات قواتها في سوريا، كانت روسيا تعتمد على ما يعرف باسم "إكسبريس – سوريا"، وهو طريق الإمدادات البحرية من "سيفاستوبول" على البحر الأسود إلى المنشأة البحرية شرق المتوسط في ميناء طرطوس السوري.
وباعتبارها حارس البوابة للمضيق، يمكن لتركيا نظريا أن تجعل هذا الطريق أكثر تعقيدا. في وقت السلم، فإن تركيا لا تزال متمسكة باحترام اتفاقية "مونترو" وتسمح لروسيا بحرية الوصول مع زيادة عمليات التفتيش على السفن المارة. ومما يشكل إزعاجا حقيقيا لروسيا هي المادة رقم 20 من اتفاقية "مونترو"، وتنص على أن في زمن الحرب، فإن تركيا، بوصفها طرفا محاربا، لها حرية التصرف الكاملة في المساحة أو منع مرور السفن الحربية عبر المضيقين، مما يجعلها قادرة على قطع طريق روسيا نحو البحر المتوسط.
تقول الكاتبة إن المضايق هي أدوات قوية في يد تركيا بإمكانها أن تستخدمها ضد روسيا. ولكن أنقرة لا يمكنها بسهولة أن تغلق الأبواب مع روسيا. ذلك أن تركيا هي ثاني أكبر مشتر للغاز الطبيعي الروسي، وهي مستورد كبير للنفط والمعادن الروسية وأكبر مشتر للقمح الروسي وزيت عباد الشمس.
وترى الباحثة أن الخلافات العالقة مع روسيا تجلب ألما اقتصاديا هائلا للأتراك، وخصوصا في مجال الطاقة. وخلافا للنفط والفحم أو القمح، والتي يمكن أن تحصل عليها تركيا من موردين آخرين، فإن تركيا ليس لديها بديل سريع وموثوق به للغاز الطبيعي، وهو مصدر مهم للطاقة من أجل الصناعة وكذا للمنازل والأسر. تزود روسيا تركيا بحوالي 55% من احتياجاتها السنوية من الغاز (حوالي 27 مليار متر مكعب من إجمالي 50 مليار متر مكعب).
وإن كان الوضع حتى الآن لا يشير إلى قرب إغلاق تركيا المضيق في وجه روسيا، كما إن موسكو ليست على وشك قطع إمدادات الغاز عن أنقرة. ولكن حتى مع ذلك، فإنه ينبغي على روسيا اتخاذ تدابير أكبر بخصوص أمن الطاقة تحسبا لمواجهة مفتوحة مع روسيا.
المشكلة بالنسبة لتركيا هي أنه لا توجد حلول سريعة لمعضلة الطاقة. تركيا لديها اثنان فقط من محطات إسالة الغاز الطبيعي المستورد، الأولى في مرمرة وإلياجا بطاقة استيعاب سنوية تبلغ 8.2 مليار متر مكعب و5 مليارات متر مكعب على الترتيب. كما أن تركيا لديها فرصة ضعيفة لاستيراد الغاز الطبيعي المسال نظرا لضعف قدرتها على تخزينه (3 مليارات متر مكعب سنويا). لذا فإن تركيا لديها الكثير لتقوم به لرفع كفاءة هذه البنية التحتية على مدى عدة سنوات.
ويواجه استيراد الغاز عبر الأنابيب من قبل موردين آخرين أيضا العديد من التعقيدات. وتستورد تركيا نحو 20 في المائة من احتياجاتها من الغاز الطبيعي من إيران.
ويمكن لهذه الواردات أن تزداد مع شروع إيران في إصلاح قطاع الطاقة بعد سنوات من العقوبات. ومع ذلك، فإن مسألة توسيع علاقات الطاقة بين إيران وتركيا سوف تستغرق وقتا طويلا، كما إنها ستحمل أيضا مخاطر كبيرة بالنسبة إلى تركيا، إذ إن إيران هي منافس جغرافي سياسي لتركيا كما روسيا، وكلما صارت روسيا أكثر حزما في سياستها في المنطقة، فإن المزيد من المنافسة مع إيران سوف تظهر في سوريا والعراق.
كما إن المنافسة الإيرانية التركية تعقد أيضا من تطلعات تركيا نحو كردستان العراق، حيث طور الرئيس أردوغان علاقات تجارية وثيقة مع زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني "مسعود بارزاني".
وقد ساعدت تركيا "بارزاني" في تطوير طريق تصدير مستقل للنفط على حساب حلفاء إيران في بغداد، والآن تستعد لتفعل الشيء نفسه بالنسبة للغاز الطبيعي لتغذية السوق التركية.
لكن انهيار عملية السلام بين تركيا وحزب العمال الكردستاني (الذي يلجأ مقاتلوه إلى كردستان العراق)، وحدوث فراغ في السلطة في شمال سوريا يتم استغلاله من قبل الانفصاليين الأكراد، سوف يدفع الجيش التركي ليصبح أكثر عدوانية خارج حدوده، وخصوصا في سوريا والعراق.
ثم إن سيطرة تركيا على عائدات مبيعات تصدير النفط تعطي أنقرة نفوذا كبيرا على حكومة كردستان العراق، ولكنَ "بارزاني" وحلفاءه هم أيضا في موقف لا يحسدون عليه، ذلك أنهم مضطرون لمواصلة التعامل التجاري مع أنقرة في الوقت الذي توسع فيه تركيا تدريجيا من وجودها العسكري في المنطقة الكردية. وهذا يتيح فرصة سهلة لإيران وروسيا لاستغلال الانقسامات الكردية وتوظيفها ضد تركيا.
وفي الوقت الذي تواصل فيه خطة الطاقة المعقدة للغاية مع كردستان العراق، فإن تركيا تسعى أيضا إلى تمهيد طريقها إلى مسرح الطاقة في شرق المتوسط.
فقد تعطلت خطط كل من إسرائيل وقبرص لتصدير الغاز الطبيعي البحري بسبب العقبات التنظيمية، في حين برزت مصر كمركز محتمل جديد للغاز الطبيعي في المنطقة.
ومع استمرار النقاش حول العديد من المقترحات لخطوط الأنابيب ومحطات تصدير الغاز الطبيعي المسال، تكون تركيا قد أضافت ضرورة جديدة للمضي قدما في محادثات التوحد مع قبرص لإزالة واحدة من العقبات الأساسية في وجه خطط أنقرة لتكامل الطاقة مع جيرانها في شرق المتوسط.
مصدر الطاقة الأكثر توافقا من ناحية الجغرافيا السياسية مع تركيا هي أذربيجان، والتي تستعد لإرسال 6 مليارات متر مكعب من الغاز الطبيعي إلى تركيا ابتداء من عام 2019 من خلال خط أنابيب عبر الأناضول (إضافة إلى 10 مليارات متر مكعب أخرى سوف يتم إرسالها إلى أوروبا من خلال خط أنابيب عبر الأدرياتيكي).
وهذا سوف يساعد تركيا على تقليل اعتمادها على الطاقة الروسية بحوالي 12%، ورغم ذلك فإن تركيا لا تزال بحاجة إلى البحث في أماكن أخرى لتخفيف القبضة الروسية بشكل أكبر. سوف تتحول منطقة القوقاز، مثلها مثل الشرق الأوسط، إلى ساحة كبيرة أخرى للمنافسة التركية الروسية.
وتبذل موسكو جهودا حثيثة حاليا من أجل سحب باكو إلى صف الكريملين من خلال المناورات الدبلوماسية حول إقليم ناجورنو كاراباخ، وسوف تفعل ما في وسعها لعرقلة خطط تركيا وأذربيجان لإنشاء ارتباط للطاقة في بحر قزوين مع تركمانستان.
***
أثبتت سياسة "صفر مشاكل مع الجيران" أنها قصيرة النظر، ولكنها أيضا كانت سياسة متوقعة من بلد لا يزال يصحو من سبات جغرافي سياسي طويل وليس في مزاج مناسب لإثارة تقلبات في المنطقة.
ولكن الأمور تغيرت بعد أن أسقطت تركيا طائرة مقاتلة روسية، موردها الرئيس للطاقة، وتستعد لتوغل عسكري في الشرق الأوسط. وعلى "بوتين" أن يعي الآن أن تركيا على استعداد للعمل، وفقا لما كتبته الباحثة، أكثر من أي وقت مضى، مع الولايات المتحدة ومنافسيها في أوروبا الشرقية والوسطى من أجل تحقيق التوازن مقابل عدائية موسكو.
وختمت مقالها بالقول: ربما تكون أنقرة قد تم تثبيطها لبعض الوقت، ولكن ليس هناك من ينكر ذلك الآن: يبدو أن الوقت قد حان بالنسبة لتركيا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق